بقلم د. رشاد لاشين

الأطفال جزءٌ مهم من المجتمع، وهم بطبيعتهم البريئة المنطلقة يتصرفون بتلقائية وعفوية، وبلا غضاضة، ولا يتحكمون فيما لديهم من معلومات، أو أحداث، أو أخبار، ماداموا لم يصلوا مرحلة من النُّضج، ولم يحصلوا على التعليم والتدريب اللازم؛ لذا قد يوقِعون الأمهات والآباء في حرج شديد بذكر أحداث معينة، أو حتى نقل مشاعر الأم السلبية تُجاه صديقاتها، من خلال تعليقاتها عليهم، أو إفشائهم لمعلومات مهمة تجري في بيوت مهمة؛ فيجلب ذلك المشكلات الكثيرة للبيت أو للأمة.

وكل البيوت تحتاج إلى كتمان أسرارها، والحفاظ على خصوصياتها، ويزداد تأكيد ذلك في بيوت خاصة كبيوت القادة، والسياسيين، والعلماء، والدعاة، والمتعاملين مع شئون الأمة ومصالح الناس.

لذا يجب أن نهتم بتعليم أبنائنا وتدريبهم على كتمان أسرار المنزل، من خلال القصص والدراما، والتوجيه الهادئ، والتعليم بالتجربة والخطأ، وتقديم النموذج العملي، وإشباع رغباتهم وحسن استيعابهم:

أولاً: متى يتعلم الطفل الكتمان؟ (المراحل السنية والتحكم في المعلومات)

- الطفل ما قبل 7 سنوات:

في هذه الفترة يُظهر الطفل مشاعره، ولا يكبِتُها بسهولة، وإدراكه للتحكم في معلوماته وإخفائها ضعيف، ويسهل استدراجه، واستخراج المعلومات منه بسهولة وذاكرته قوية، ولكن في الغالب سلوك الطفل يتمحور حول ذاته ولا يلتفت إلى الأمور التي تخصُّ غيره باهتمام.

وتدريبه يحتاج لجهد كبير وأرضية كبيرة من الحب والتوافق والانسجام.. ويمكن البدء في تدريبه بشكل مبسط بالقصص والحكايات وتوضيح المفاهيم، ويجب الاحتراز من ذكر الأسرار المهمة أمامه، وخصوصًا إذا كان الطفل يعيش في أسرة كبيرة، وهناك اختلاط في تعاملات كثيرة؛ حتى لا يجر ذلك الكثير من المشكلات، من خلال عفوية الطفل، وعدم تقديره لخطورة ذكر المعلومات أو الأحداث أو المشاعر أو التعليقات التي ربما يوصلها بسذاجة فيقول: "ماما امبارح كانت زعلانة منِّك وبتقول عليكي وحشة".

- بدءًا من عمر 7 سنوات (مرحلة التمييز):

تزداد قدرة الطفل على الإدراك والتمييز ويبدأ السلوك المتمحور حول المجتمع وعلاقات الصداقة، ويستطيع الطفل التحكم في معلوماته وكبت مشاعره، ويمكن تدريب الطفل بشكل جيد وبطريقة أسهل على التحكم في المعلومات.

ثانيًا: لماذا يفشي الطفل أسرار المنزل؟

1- لأنه لم يتعلم حفظ أسرار المنزل: لغياب القدوة، وغياب التعليم والتدريب.

2- للتنفيس العاطفي في حالة افتقار الطفل للعطف والثناء والتقدير، فيحكي الأسرار للتنفيس، وكمحاولةٍ للفت الانتباه. (الإشباع النفسي والعاطفي يجلب احترام الخصوصية وكتمان السر).

3- للرغبة في الانتقام من الوالدين؛ لقسوتهم معه، ولكثرة ضغوطهم عليه. (الطفل لا يُفشي سر من يحب).

4- أن تكون هناك محاولةٌ للابتزاز من الآخرين، كأن يتلطف إليه أحد ويغريه، ويستدرجه، ويستخرج منه المعلومات.

ثالثًا: كيف نربي أبناءنا على كتمان أسرار المنزل؟

أولاً: توفير المناخ الذي يساعد على حفظ الأسرار:

التربية على مراقبة الله تعالى في السرِّ والعلن، وعلى الرجولة وتحمل المسئولية، وتوفير المناخ المفعم بالحب، والود، والاحترام، والتقدير، والرفق، واللين، والتفاهم، والانسجام مع الطفل يجعله يحترم الخصوصيات ويحفظ الأسرار، والعكس فغياب مراقبة الله تعالى والقسوة، والغلظة وغياب العطف والتقدير والاحترام قد يُلجئ الطفل لإفشاء الأسرار من باب الفضفضة، وجذب الانتباه أو بوازع الانتقام والعقاب.

كذلك إشباع الطفل وتلبية احتياجاته المادية والمعنوية بالقدر المناسب؛ حتى لا يكون عرضة للابتزاز والإغراء في مقابل استخراج المعلومات منه.

ثانيًا: تقديم القدوة:

يتعلم الطفل من خلال سلوك الوالدين، بعدم إفشائهم لأسرار الغير أمام الطفل، وأن يتعلم احترام خصوصيات الآخرين من خلال سلوكياتنا العملية:

ثالثًا: تعليم وتدريب الطفل بطريقة عملية:

أن نعرف الطفل بأن هذه المعلومات خاصة بنا، ويجب ألا يعرفها أحد سوانا، وأنه من الطبيعي أن يكون لكل بيت خصوصياته مع الاهتمام بالآتي:

1- أن نُعَلِّم الطفل أن الأمانة المعنوية مثل الأمانة المادية:

وذلك من خلال الحديث الشريف "إذا حدَّث الرجلُ الحديثَ ثم التفت فهي أمانة" (الترمذي)، ويجب أن ندرِّب أطفالنا على ذلك بشكل عملي؛ بأن نشرح الحديث أولاً ثم نحدث الطفل في أمر ونلتفت دون أن نقول له لا تخبر أحدًا بذلك، ثم نرتِّب مع فرد آخر يحاول استخراج المعلومة، ونرى ماذا يفعل الطفل ثم نصحح له السلوك، وكذلك تعليم أبنائنا من خلال السيرة النبوية للنموذج الرائع للطفل الذي يحفظ الأسرار من خلال سيدنا أنس بن مالك الغلام حافظ سرِّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ  حين خرج لحاجة أرسله إليها رسول الله، وسألته أمه فأجابها: (لا أفشي سر رسول الله).

2- تعليم الطفل الهدف من الكتمان مع التفريق بين الكتمان والخوف:

فالهدف من الكتمان ليس الخوف، بل ستر الشئون الخاصة، والتدبير والسعي لإنجاح الأعمال، ويمكن تقديم شرح مبسط لحديث رسول الله: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان". وكذلك شرح الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا (71)﴾ (النساء) فالحذر ليس للخوف والانكماش ولكن للنفير والانطلاق، وكذلك المقولة العملية: (داري على شمعتك تقيد).

لماذا نكتم أخبارنا يا أبي:

شريف عمره 5 سنوات يصادق الجيران، وكلما جاء ضيوف، أو  وقعت أحداث في البيت ينقلها إلى الجيران فيقع الوالد في حرج.

وحينما كلَّم الأب شريف قال شريف: ولماذا نخفي أخبارنا عن الجيران يا أبي؟.

قال الأب: يا ولدي الحبيب، لكل بيت شئونه الخاصة به، والتي يجب ألا يعرفها غيرهم.. وهل نحن نعرف يا شريف شئون جيراننا الذين توصل أخبارنا إليهم.. هل نحن نعرف ماذا يأكلون وماذا يفعلون..

قال شريف: لا يا أبي.

قال الأب: إذًا كلُّ بيت له أموره الخاصة به يا شريف.

فَهِم شريف، واقتنع، ومن بعدها توقَّف عن توصيل أخبار البيت إلى الجيران.

3- التفريق بين الكتمان والكذب:

فالكتمان هو الامتناع اللبق اللطيف عن ذكر المعلومة أو إخفائها، دون أن يشعر بها أحد، وأما الكذب فهو تغيير الحقيقة، وأن يتعلم ذلك من خلال القصص القرآني في قصة أهل الكهف: ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)﴾ (الكهف) وذلك حتى لا ينزلق الطفل في الكذب بحجة أنه يضطر إلى ذلك بسبب الحرص على الكتمان.

4- التوازن في تعليم الكتمان وتجنب المبالغة:

حتى لا يتحول الأمر إلى هاجس بكثرة التحذير وتصبح شخصيته مهزوزة؛ وحتى لا يتعود الطفل إخفاء كل شيء حتى عن الوالدين، مع التأكيد على الطفل أن يكون صريحًا مع والديه يعرفهما بكل شئونه؛ وذلك حتى يمكن متابعته وتقويمه.

رابعًا: المعلومات المهمة في البيوت المهمة

في البيوت التي يتم فيها تداول معلومات مهمة يجب مراعاة الآتي:

1- أن يكون هناك تقدير لدرجة خطورة المعلومة، وفي جوٍّ الانسجام والحب والتوافق يجب الترتيب متى يحضر الطفل ومتى لا يحضر، وهل هو من النوع الكتوم المتزن أم من النوع الفضولي الذي لا يتحكم في معلوماته؟ وهل الطفل منسجم مع الأهل ومتوافق معهم ومتقبل لمنهجهم وطريقهم أم لا؟.

2- في كل الأحوال يجب أن تكون هناك درجات من الخصوصية وتصنيف لأهمية المعلومات، فالمعلومات الحيوية نحترز من ذكرها أمام الأطفال، وأن ندربهم على ذلك ونعود الطفل بأن لا يسأل عما لا يخصه أو لا يعنيه: "من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وأن نعلمه أيضًا أن: "كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نُهينا عنه شرعًا".

3- أن نوضح للطفل أن إخفاء المعلومة سلوك طبيعي، ولا يعني فقدان الثقة أو ضعف الحب، وأن يتعلم من خلال السيرة النبوية الشريفة سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتمان المعلومات الحيوية وعدم ذكرها أمام مَن لا يختص بها.

4- أن يكون هناك حث وتذكير بين الفترة والأخرى وبلا مبالغة بأن هذه الأمور أمانات يجب الحفاظ عليها وعدم تعريف أحد بها، وأنه فردٌ مهم في الأسرة، ويطلع على كثيرٍ من أمورها، وأنه محل ثقتنا وأننا نعتز به ونشكره على حفاظه على الأسرار التي يطلع عليها.

5- تعريف الطفل أن من واجب المسلم أن يخفي معلوماته عن أعدائه؛ حتى لا يتربصوا به (وذلك من خلال السيرة النبوية: بداية الدعوة سرًّا لمدة ثلاث سنوات في دار الأرقم- الهجرة والإخفاء والتمويه- وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة فإنه لا يخبر أحدًا بوقتها ولا بمكانها حتى يجهز الجيش ويستعد للقتال).

6- توعية الطفل للتحرز من الأشخاص المبتزين الذين يحاولون استخراج الأسرار منه، وأن طالب المعلومات متجسس أو جاسوس، والله تعالى حذَّر من التجسس والمتجسسين: ﴿وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ (الحجرات: من الآية 12)، وأن يتعود الارتباط بالهدف في سلوكه، وأن يسأل من يطلب منه المعلومة عن هدفه من طلب المعلومة، وهل يجوز له التدخل في شئون الآخرين.

7- الاهتمام الطبيعي بحسن متابعة الطفل وعلاقاته والأشخاص الذين يحاولون الاتصال به.

خامسًا: قصص تعليمية عن حفظ الأسرار

- أنس بن مالك الغلام حافظ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ورد في  مسند الإمام أحمد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا حتى إذا رأيت أني قد فرغت من خدمتي قلتُ يقيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجتُ إلى صبيان يلعبون قال فجئتُ أنظر إلى لعبهم، قال فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلَّم على الصبيان وهم يلعبون فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثني إلى حاجةٍ له فذهبتُ فيها وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في فيء حتى أتيته، واحتبستُ عن أمي عن الإتيان الذي كنتُ آتيها فيه فلما أتيتها قالت ما حبسك قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ له. قالت: وما هي؟ قلتُ: هو سر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فاحفظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرَّه. قال ثابت: قال لي أنس: لو حدثتُ به أحدًا من الناس أو لو كنتُ محدثًا به لحدثتك به يا ثابت".

- هند والوعد بكتمان الأسرار:

هند تحب الخروج والرحلات والزيارات وتشعر بالبهجة والسرور كلما خرجت مع والديها، ولكنها ذات مرة في إحدى الزيارات جلست تذكر ما حدث بالبيت: لقد أكلنا اليوم كذا، وأبي كان يقول لأمي كذا، وإخوتي كانوا يفعلون كذا، وزارنا بالأمس عمي فلان.. فغضبت منها أمها، وكذلك أبوها وإخوتها، ورفضوا أن يصطحبوها معهم في الزيارة القادمة فحزنت هند جدًّا لأنها تحب الخروج والزيارات والرحلات فاعتذرت، ووعدتْ بعدم فعل ذلك في المرات التالية أبدًا؛ فسامحوها بشرط ألا تعود لذلك مرةً أخرى، وأخذوها معهم في الزيارة التالية فكانت بالفعل مؤدبة ملتزمة، لا تذكر لأحد أسرار المنزل أبدًا؛ فأعطوها مكافأةً، وشكروها على ذلك، ووعدوها باصطحابها معهم في الزيارات المقبلة؛ حتى يدخلوا عليها السرور.. وتعلمت هند من خلال ذلك احترام خصوصية أسرار المنزل، وعدم ذكر أخبار البيت لأحد.

- العصفورة فرفورة وأسرار البيت:

كانت العصفورة فرفورة تصغي بانتباه لما يدور بين أمها وأبيها من حديثٍ عائلي خاص، وعندما انتهيا من الحديث سألتهما إن كان بإمكانها أن تقص ما حدث بينهما على صديقتها اليمامة الصغيرة، فقالت أمها على الفور: حذارِ أن تفعلي ذلك؛ فما يدور داخل البيت بين الأم والأب هو سرٌّ من أسرار ذلك البيت، لا يجوز نقله إلى الغير مهما كانت الأسباب، وكذلك فإن على الصغار أن لا يتدخلوا في شئون الكبار، أطاعت العصفورة فرفورة أمها، ولم تنقل كلمة واحدة مما سمعت من أمها وأبيها إلى خارج البيت.

سادسًا: كيف نتعامل مع الطفل الذي يفشي الأسرار؟

أولاً: دراسة سبب إفشاء السر:

إذا عُرف السبب بطل العجب؛ فقد لا يكون الطفل على علمٍ أو دراية بخطورة أو عاقبة إفشاء السر، وقد يكون الطفل يعاني من الحرمان أو القسوة أو.. أو.

ثانيًا: الحرص على التفاهم وتجنب العقاب:

في مواجهة سلوك إفشاء السر يجب تجنب المعاقبة والتقريع والمعاملة القاسية والتعامل مع الأمر على أنه أمر عارض، وعدم اعتباره كارثة، كذلك تجنب النبذ والتقريع والألفاظ القاسية مثل أنت إنسان سيئ أو شرير، والحرص على التفاهم معه بهدوء ولطف وإشعاره بأهميته كعضو من أعضاء الأسرة؛ لأن العنف قد يفاقم المشكلة ويزيدها.

ثالثًا: التصرف الوقائي بحجب المعلومات المهمة حتى ينضبط الطفل.

رابعًا: التدريب بالمكافأة: أن نحرص على مكافأة الطفل إذا مرَّ يوم أو يومان دون أن يكلم الطفل أحدًا عما حدث بالبيت، ليتعلم أن هذا سلوك مرغوب فيه والالتزام به سبيل من سبل رضى الوالدين عنه.

خامسًا: الحرص على الدعم النفسي والتشجيع:

وذلك بذكر الصفات الحسنة للطفل، ثم إضافة جملة: أنت ممتاز، ولكن أتدري ما ينقصك حتى تكتمل صورتك الجميلة؟ ينقصك الامتناع عن صفة إفشاء الأسرار، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل".

سادسًا: الاهتمام الكامل بالابن وزيادة جرعات الحنان والرعاية وتلبية الاحتياجات:

فقد يكون الابن في أمسِّ الحاجة إلى ذلك، وقد يكون إفشاء الأسرار هو من قبيل جذب التعاطف أو لفت الانتباه بسبب الجوع النفسي أو العاطفي.

وفي الختام نسأل الله تعالى أن يمنَّ على كل أبوين بأطفال صالحين واعين ناجحين نافعين للإسلام والمسلمين.. اللهم آمين.