بقلم د. رشاد لاشين

أمتنا الحبيبة في حاجة إلى قيادات جديدة، تُعَد إعدادًا سليمًا منذ الصغر؛ حتى تتكون تكوينًا صحيحًا، يحقق رسالة إسلامنا العظيم، والقدرة على القيادة طبيعة، وهبها الله تعالى للإنسان؛ حتى يستطيع أن يقود الحياة وأن يقوم بِمَهَمّتَيْ العبادة والاستخلاف في الأرض ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً.. (30)﴾ (البقرة).

وهذه القدرات القيادية تنمو نموًّا طبيعيًّا بفطرة الله التي فطر الناس عليها، ودور المربي هو رعاية مراحل النمو وتعليم المهارات، والحرص على أن يكون نموُّ القدرة على القيادة متوازنًا ومعتدلاً، بلا زيادة ولا نقصان؛ حتى تستقيم الحياة ويتكامل المجتمع، من خلال الشورى وتبادل الأدوار نحو إدارة مؤسسية ناجحة لشئون حياتنا وأمور أمتنا، من خلال قادة عظماء يديرون دفة الأمور خير إدارة، وفي المقابل فإن نقصان أو انعدام القدرات القيادية يأخذ بأمور الحياة نحو الضياع والفشل والتأخر والتخلف، كما أن زيادة النزعة القيادية تجرُّ نحو الطغيان والتسلط والكبر والغرور والعدوان وبطر الحق وغمط الناس.

لذا فنحن بحاجة للتربية القيادية المتوازنة التي تربي الابن القيادي المعتدل المتواضع الحريص على الشورى، واحترام الآخرين، المستعِدّ لتبادل المواقع، الحريص على تكامل الأدوار والمواهب والقدرات لخدمة المجتمع وصالح الأمة.

وللقدرة على القيادة مراحل تطور طبيعية تتمثل في الآتي:

1- بدء تكون الإرادة والقصد وسلوك السيادة والتفوق :

 (من عمر 6- 12 شهرًا):

يبدأ السعي نحو القيادة بامتلاك الإرادة والقصد، وهما ميزتان تظهران في هذه الفترة، ورغم ترحيب معظم الآباء بهما، لكنهم يجدون تحديًا في التعامل معهما.

وبعد امتلاك الإرادة والقصد، يبدأ الرضيع في ممارسة سلوك السيادة والتفوق، فهو يحاول أن يسود المواقف في التعاملات البسيطة التي تحدث بينه وبين المحيطين به، ويسعى للتفوق عليهم في سلوكه وتصرفاته، وذلك كلما شعر بالسعادة والأمان والثقة بالنفس، والعكس صحيح، فإذا فقد الأمان والسعادة والثقة ينحسر سلوك السيادة والتفوق.

وفي هذه المرحلة تبدأ القدرة الأولية على التظاهر والرفض والاحتجاج في صورة مبسَّطة من نوبات الغضب، وذلك عندما تتضارب الرغبة في السيادة والتفوق من الطفل الذي ما تزال قدراته محدودة مع سيطرة الوالدين.

2- إثبات الذات والاستقلال عن الآخرين (من 2- 3 سنوات):

تحتاج القيادة إلى إثبات الذات واستقلالية القرارات؛ لذلك نجد الطفل بعد امتلاك الإرادة والقصد وممارسة سلوك السيادة والتفوق؛ يبدأ في إثبات ذاته والاستقلال عن الآخرين، من خلال ممارسة بعض الأعمال، بالاعتماد على النفس، ورفض مساعدة الآخرين، وتقديم اللاءات العديدة إثباتًا للذات وإبرازًا للقدرات.

3- (الزعامة المؤقتة)

وظهور المبادرة والمبادأة ومحاولة فرض الذات على الآخرين (من 3- 6 سنوات):

الواثق بنفسه المالك للإرادة والقصد المتميز بذاته واستقلالية قراراته؛ يحتاج لقيادة الأمور بالمبادرة أو المبادأة، وهي ميزة تظهر في هذه المرحلة؛ حيث يبادر الطفل بالقيام بمجموعة من الأنشطة، ويحاول فرض نفسه على الآخرين وعلى كل المواقف والأحداث، وهذه المرحلة هي مرحلة السلوك المتمحور حول الذات، وفيها لا يرى الطفل العالم إلا من وجهة نظره هو، ولا يعترف بوجهة نظر الآخرين، ويظهر فيها العناد وثورات الغضب التي هي في الأصل خطةٌ للسيطرة وفرض وجهة النظر وقيادة الآخرين لتنفيذ وجهة نظره.

والقدرة على الزعامة في هذه الفترة مؤقتة، وغير ثابتة، فهي تظهر أحيانًا وتختفي أحيانًا أخرى، وفي هذه الفترة تلعب عمليات التنشئة والتطبيع الاجتماعي دورًا مهمًّا في غرس سلوك (القيادة، والسيطرة) أو (التبعية والمسايرة) في نفس الطفل.

4- (بدء استقرار الزعامة) :

والسعي لاكتساب الشعبية ومحاولة قيادة الآخرين عن طريق التنافس (7-9 سنوات):

تبدأ ملامح القيادة والزعامة في الظهور (الطفولة المتوسطة)، وفي هذه الفترة يبدأ السلوك المتمحور حول المجتمع، ويمارس الطفل العلاقات الاجتماعية كافة، مثل التعاون والعمل في فريق، ويتعلم قيم المجتمع والمهارات الاجتماعية المتنوعة، كاتخاذ وجهة نظر الآخرين، ويكتسب خاصيةً أخرى، وهي البحث عن سمات تكون لها أهمية خاصة بالنسبة له، مثل: الشعبية، والقيادة، وفي هذه المرحلة تكون معالم الشخصية قد تميَّزت بخصائصها وسماتها، ويستقر الأمر بالنسبة لقدرة الطفل على القيادة والزعامة الاجتماعية؛ فإما أن يكون قائدًا وزعيمًا ومسيطرًا أو إمعةً وتابعًا ومسايرًا أو بين بين.

ومن أبرز السلوكيات في هذه المرحلة التنافس ومحاولة قيادة الآخرين بسبقهم والتفوق عليهم؛ حيث يميل الطفل إلى روح المنافسة وخاصةً في مجتمع المدرسة، وتظهر هذه الروح واضحةً في مجموعة الأطفال المتفوقين دراسيًّا أو في الألعاب الرياضية الفردية والجماعية.

5- (قائد جماعة الرفاق) :

 

وظهور محاولة القيام بدور الكبار والنقد للأشخاص والأفعال (10-12 سنة):

في هذه المرحلة يحاول الأطفال دائمًا الانتماء إلى جماعة يحصلون منها علي التقبل الاجتماعي؛ لذلك يكون الأطفال جماعات الرفاق أو ( الشلة) ، وتتجاهل الجماعات (الشلل) الطفل الهادئ المنطوي مهما كان ممتازًا في صفاته، وقد لوحظ في كثير من الدراسات أن الطفل الذي مر بخبرة القيادة في المراحل السابقة تتوافر له الفرص ليكون قائد جماعة في هذه المرحلة، وذلك بسبب امتلاكه لمجموعة من السمات والمهارات تجعله الأكثر شعبية، وتحقق له درجة كبيرة من التوافق النفسي والاجتماعي ؛ ومن هذه الصفات : الذكاء، والحكمة، والفهم، والثقة بالنفس، والاتزان الانفعالي، والنشاط، وإدراك رغبات الآخرين، والاهتمام بها، ويجب أن يكون جديرًا بثقتهم فيه.

يزداد احتكاك الطفل في هذه المرحلة بجماعات الكبار ,ويسعى لاكتساب معاييرهم، واتجاهاتهم، وقيمهم، فالذّكر يتابع ما يجري وسط الشباب والرجال، وكذلك الأنثى، ونجد الطفل يحب صحبة والديه، ويفخر بوالده، ويُعجب بالأبطال، ويتضايق الطفل في هذه المرحلة من الأوامر والنواهي، ويثور على الروتين، و يحاول التمرد علي سلطة الكبار، كما يلاحظ زيادة نقد الطفل لتصرفات الكبار حتى يقال أنه ينقد كل شئ وكل فرد.

6- الممارسة الحقيقية للقيادة :

مع تعزيز الهوية وتولي دور في المجتمع (12-21سنة):

هذه الفترة هي مرحلة تتويج تكوين الشخصية، ومع بدء النضج والقدرة على التفكير المجرد وبروز الهوية، تبدأ القدرة الحقيقية لممارسة القيادة بأسلوب ناضج، وقد تولَّى القائد محمد الفاتح إمارة ولاية مغنيسيا، وكان عمره 12 عامًا، وتولى أسامة بن زيد قيادة الجيش الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأديب الروم وكان عمره 16 عامًا.

وإذا غاب الدور القيادي في هذه المرحلة تضطرب الشخصية؛ لذلك تسمَّى هذه المرحلة في التقسيم النفسي الاجتماعي لإريكسون (الهوية في مقابل اضطراب الدور).

وإذا كانت أمتنا الحبيبة أمةَ الريادة والقيادة التي تسعي لتقديم الرحمة للعالمين، ونشر العدل والخير، وتخليص العالم من الظلم والشر، وإزاحة الأشرار الظالمين عن قيادة البشرية؛ فهي في أمسِّ الحاجة إلى قيادات جديدة تحمل الراية، وتملأ الميدان وتهتف باسم الله تعالى وتتوج بنصر الله المبين، فتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وذلك لن يكون إلا بعد أن يسهر كل أب وتسهر كل أم على تربية صلاح الدين والمعتصم بالله وخالد بن الوليد وطارق بن زياد، وبعثهم في الأمة من جديد، من خلال رعاية المراحل الستة؛ لتكون القدرة على القيادة؛ حتى ننضج لأمتنا قادةً عظماءَ، يمحون عنا الذل والعار، ويعيدون لنا السؤدد والمجد، وإن ذلك لكائن بإذن الله.. فهيَّا نشمر جميعًا لإعداد القادة الجدد.