بقلم: د. رشاد لاشين

في السعي نحو البناء الصحيح لأجيال الغد تمر بالشباب أحيانًا قضية زواج الأقارب بحكم النشأة والعادات أحيانًا، وبحكم التقاليد العائلية الصارمة أو العاطفة الجارفة الغلابة أحيانًا أخرى؛ وإذا كنا نسعى لجيلٍ قوي الجسم متين الخلق يجب أن نزنَ هذه المسألة بالميزان الصحيح، وتغليب السلوك الذي يحقِّق مصلحة الأمة، وما أجمل ما ورد في شأن زواج الأقارب: "لا تنكحوا الأقارب فإن الولد يخلق ضاويًا" (ضاويًا: ضعيف الجسم بليد الذكاء) (حديث مرفوع والبعض ينسبه لسيدنا عمر بن الخطاب).

وإذا نظرنا إلى دائرة علاقات القُربى القريبة لنرى الاشتراكَ في الصفاتِ المتوارثة عن طريق انتقال المورثات أو الجينات من الآباء والأجداد إلى الأبناء والأحفاد.. لأمكننا أن ندرك الآتي: (1) يشارك الطفل كلاًّ من والديه في (1/2) الصفات الوراثية.

(2) يشارك الطفل كلاًّ من أجداده وجداته في (1/4) الصفات الوراثية.

(3) يشارك الطفل كلاًّ من أعمامه وأخواله في (1/4) الصفات الوراثية.

(4) يشارك الطفل كلاًّ من أبناء أعمامه وأبناء أخواله في (1/8) الصفات الوراثية.

(5) في حالة زواج الأقارب يمكن أن تتضاعفَ النسب السابقة في 2 ، 3 ، 4

ومن هنا كان التحذير من زواج الأقارب.

لقد قدَّم الإسلام سبقًا فريدًا على علم الوراثة الحديث بالإرشاد إلى البعد عن زواج الأقارب الذي تبيَّن فيما بعد مخاطره وأضراره.

(1) زواج الأقارب يزيد فرصةَ الإصابة بالأمراض الوراثية التي قد تنحدر من أسلافٍ وأجدادٍ بعيدة.. إذ قد يحمل كل من الزوجين بدون علمه عنصرًا غير طبيعي يخاطر كل منهما بنقل العنصر المخفي (العرق الدساس) إلى طفله؛ حيث تزداد فرصة اتحاد الصفات الوراثية المتشابهة، مما يتيح فرصة ظهور الصفات الكامنة المتنحية، ويجر إلى ويلات الأمراض الوراثية العقلية والجسمية التي تمثِّل معضلة للطب حتى الآن.

(توصل علم الهندسة الوراثية حديثًا إلى تحديد المورثات (الجينات) المسببة للأمراض داخل الخلية، ومن الناحية العلمية فإنه يمكن التعامل معها.. ولكن يبقى الأمر في غاية الصعوبة والتكلفة، والتطبيق الفعلي يحتاج إلى سنوات طويلة.. والوقاية خير من العلاج).

(2) زواج الأقارب قد ينتج عنه سلالات ضعيفة عقليًّا وجسميًّا واجتماعيًّا: فاحتمالية الضعف العقلي والجسمي تكمن خطورته أساسًا في وجودِ مرضٍ وراثيٍّ في الأسرة مثل التخلف العقلي وبعض الأمراض الجسمية مثل ضمور العضلات، الصمم، بعض أمراض الدم مثل: بعض أنواع الأنيميا ومرض سيلان الدم (الهيموفيليا) وغيرها.

أما الضعف الاجتماعي فينشأ من التقوقع العائلي؛ حيث إنَّ الطفل الذي ينشأ من عائلتين مختلفتين يكون أفضل من الطفل الذي ينشأ من عائلةٍ واحدة؛ لأن الأول سيكون مزيجًا من صفاتِ العائلتين العقلية والجسمية والاجتماعية (في حال قوة العائلتين بالطبع)، أما الثاني فسيكون محدودَ القدرات والإمكانات؛ لأنه نشأ في وضعٍ متقوقعٍ على نفسه.

للأسف الشديد يتم زواج الأقارب في كثيرٍ من المجتمعات العربية بشكلٍ مرتب وشبه إجباري، حتى إن البعض يعتبر زواج البنت خارج العائلة عارًا وشنارًا، حتى لو كان هذا الذي من خارج العائلة من العلماء أو علية القوم أو الصالحين والأفاضل، وذلك نوعٌ من الأنفةِ والاستكبار والحمية غير الطيبة.

دور واجب للعلماء والإعلاميين :

حرصًا على الإصلاح الاجتماعي يجب أن يسعى الدعاة والعلماء والإعلاميون بدورٍ فاعلٍ وحثيثٍ لنشر الوعي الصحيح ومقاومة العصبية البغيضة التي تجعل بعض العائلات تنغلق على بعضها وتنكفأ على نفسها وتمنع التزاوج من خارجها، ونقوم بحملاتٍ توعي الشباب وتوجه النداء إلى رؤساء العائلات:

- فنخاطب فيهم روحَ الأبوة والرعاية، وننادي فيهم ضميرَ الأمانة والمسئولية عن الأجيال بأن يجنبوهم المخاطرَ الجسميةَ والعقلية والاجتماعية التي قد تجرها عادة تقوقع العائلة على نفسها في الزواج وما قد ينتج عن ذلك من معاناةٍ للأطفال ولمَن حولهم.

- ننادي باسم الإسلام والعلم أن يفكوا الحصارَ عن الشباب والفتيات، وأن يطلبوا فقط المواصفات الطيبة التي يحض عليها الإسلام في شروط الزواج دونما تقيُّد بعصبية العائلة والقبيلة.

- أن نهيبَ بهم أن يستجيبوا لنداء المولى تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (سورة الحجرات:13).

وأن يستجيبوا لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "كلكم لآدم وآدم من تراب، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى"، وألا ينسوا تنفير رسول الله صلى الله عليه وسلم من التنادي بالعصبية التي قال عنها: "دعوها فإنها منتنة".. لذلك يجب على مجتمعاتنا أن تتخلَّصَ عن هذه العادة حتى لا تخيم الكآبة على حياةِ أسرنا.

* إذا دعت الضرورة إلى زواج الأقارب يراعى الآتي:

1. أن تكون العائلة في تاريخها الماضي خاليةً من الأمراض الوراثية.

2. عمل التحاليل الوراثية (تحليل الجسيمات الصبغية أو الكروموزومات) لكشف احتمالية حدوث مرض وراثي في الأجيال القادمة، وهذا الأمر أصبح الآن متاحًا.

3. يفضل ألا يكونَ والدا الزوجين من نفس العائلة؛ لأن ذلك يقلِّل من احتمالية حدوث الأمراض الوراثية.

* ونحب أن نوضِّح أن زواجَ الأقارب لا يخلق المرضَ ولكن يزيد مخاطر ظهور مرض مخفي.

ونحب أن نوضح كذلك أن هناك زيجاتٍ من الأقارب في غاية السعادة ولديهم أولاد في أحسن صحة.

وإنما الذي نعنيه هنا هو السعي نحو بناء الأجيال القادمة بصورةٍ أفضل وتوفير الظروف الأحسن لذرية طيبة قوية جسمانيًّا واجتماعيًّا، وبعيدًا عن العادات والتقاليد الصارمة التي قد تتنافى في كثيرٍ من أحوالها مع روح الإسلام وروح العلم.

* إذا حدث الزواج بالفعل فما الرعاية اللازمة؟

1. الفحص الجيد للطفل عند الولادة لاحتمال وجود صفات غير طبيعية أو تشوهات خلقية في الجسم عمومًا والوجه خصوصًا؛ وملاحظة وزن الطفل وقدرته على الرضاعة والامتصاص، وكذلك ملاحظة بكاء الطفل وهل هناك تغير في الصوت المعتاد للبكاء، والعرض على طبيب الأطفال لعمل فحص شامل للطفل الحديث الولادة.

2. متابعة النمو الجسمي للطفل وهل يتطور أو لا؟

3. متابعة النمو العقلي للطفل وقياس قدراته وهل تصرفاته مناسبة لسنة أو لا؟

4. في حالة اكتشاف الخلل يتم التعامل معه مبكرًا وتقديم الطفل لبعض المراكز المتخصصة في الرعاية والتأهيل أو العلاج الوراثي حينما يتيسر ذلك في المستقبل بإذن الله.

* في حالة إصابة أحد الأبناء بمرضٍ وراثي:

1. استشارة الطبيب لعمل التحاليل الوراثية اللازمة لمعرفة احتمالية إصابة الذرية القادمة بالمرض، ويكون بالفحص الوراثي للأب والأم والطفل المصاب.

2. أثناء الحمل: قد يفيد كثيرًا فحص السائل المحيط بالجنين (السائل الأمينوسي) أو أخذ عينة من الخملات المحيطة به؛ لتشخيص ما إذا كان الجنين مصابًا بمرضٍ وراثي أم لا، ولكن لا يتم ذلك إلا في مراكز متقدمة.

3. حتى الآن لا يوجد علاج جدي لمنع ظهور الأمراض الوراثية عدا منع زواج الأقارب واستخدام موانع الحمل وإجهاض الجنين المصاب في حالات خاصة إذا أفتى العلماء بذلك.

4. الأمل ينحصر في أن تصبح العلاجات الوراثية الحديثة سهلة التطبيق ميسورة التكلفة.