الهدف والغاية:

إن العمل الذي يقوم به الإنسان – مهما كان حجمه أو غرضه – لابد له من قاعدة نفسية نابعة من القلب والوجدان؛ لكي يصل بمن يقوم به إلى الغاية التي يصبو إليها، أو يخطط لها، فإذا لم يكن عند الإنسان مثل هذه القاعدة الأساسية، فإن كل الجهود التي ينفقها في عمله ستذهب هدراً، ويكون مآلها الضياع والخيبة والفشل، ولن ينال صاحبها من ورائها إلا التعب ثم مواجهة السراب الذي لا يغني من الواقع شيئاً.

لأن الإنسان ينظر إلى ما يقوم به من أعمال من خلال الغاية التي يتوخاها، أو الهدف الذي يرنو إليه لذلك فإن همه أولاً وأخيراً تحقيق ما أخذ نفسه به من دقائق الأمور أو جلائلها، دون أن يأخذ في الاعتبار الصعوبات والمتاعب التي تكتنفه في عمله أو تنتظره في جسده، أو تواجهه في مسيره، لأن من عرف ما طلب هان عليه ما وجب، فهو يوقن أن الإنسان الذي يضع نصب عينيه هدفاً ثابتاً مهما كانت أبعاد هذا الهدف أو حدوده، فإنه لا يمكن أن يسقط من حسابه الجهود التي تفصل بينه وبين هذا الهدف، وما تقتضيه هذه الجهود من معاناة في الوقت والجسم والذهن، وقد تصل هذه المعاناة إلى مال الإنسان وحياته قبل وصوله إلى مأربه، فليس له أن يفاجأ بما يلاقيه من البأساء والضراء وهو في سبيله إلى ما يريد، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره ولا أحسب الجنة هنا إلا المطلب الأسمى الذي تتطاول إليه آمال البشر، وليست المكاره التي حفت بها إلا الجهود التي كُتب على الناس أن يعانوها قبل أن تتحقق هذه الآمال.

فهم تعلمناه :

لقد تعلمنا من منهاج الإمام البنا أن كل إنسان قبل أن يصمم على البدء بالخطوة الأولى في مسيرته إلى الهدف الذي رسمه لنفسه، عليه أولا وقبل كل شئ أن يكون مؤمناٌ بهذا الهدف، مؤمناٌ بقدرته على تحقيقه بمشيئة الله وعونه. ذلك أن من لا يؤمن بهدفه الذي يسعى إليه، ولا يؤمن كذلك بأنه قادر على بلوغ هذا الهدف – بتوفيق الله – حرى به ألا يصل إلى ما يبتغيه لنفسه مهما طال به الانتظار وتمادى عليه الزمن، ذلك لأن الإيمان بالهدف المنشود، والإيمان بالوصول إليه هما الشرطان الأساسيان لكل عمل جاد يأخذ الإنسان نفسه به ويتطلع إلى تنفيذه، ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة الذي نشعر في جميع مراحل حياته الشريفة بأنه صاحب قضية حق، فكان r دءوباً لا يكل ولا يمل من العمل بالرغم من أن الله وعده بأن هذه القضية مكتوب لها النصر والغلبة، مهما تراخى الزمن.

وبهذا الإيمان وهذا التصور السليم بدأ الإمام البنا، بعد أن وضع أهدافاً محددة ولم يأل جهداً في العمل على تحقيقها وهذه الأهداف التي تلتزم بمنهاج النبوة تعريفاً وتكويناً وتنفيذاً تحتاج لتحقيقها تربية متأنية هي:

    إيجاد يقظة روحية إيمانية.

    تربية الفرد المسلم تربية شاملة لجميع مناحي الحياة بدنياً وعقلياً وروحياً ونفسياً، تربية تشمل جوانب الحياة جميعها.

    تكوين الأسرة المسلمة على أساس هذه التربية.

    إيجاد المجتمع المسلم المربى أفراده، والذي يطبق منهج الإسلام في واقعه.

    إحياء الخلافة الإسلامية التي افتقدناها زمناً طويلاً.

    إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية لتصبح خير أمة أخرجت للناس.

وهذا كله يحتاج إلى عمل دءوب متصل، عمل شعبي منظم للعودة بالإسلام إلى قيادة المجتمع، وتوجيه الحياة – كل الحياة- بأوامره ونواهيه وتشريعاته وتوصياته ليس مجرد كلام يقال، أو خطب تلقى أو محاضرات تنظم، أو كتب تألف ومقالات تنشر، وإن كان هذا كله مطلوباً طلباً مؤكداً لا ريب فيه، ولكنه جزء من حركة وليس هو الحركة والله تعالى يقول: )وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون( [التوبة: 105] فهو عمل شعبي منظم يقوم أساساً على الانبعاث الذاتي والاقتناع الشخصي، إيماناً واحتساباً، وابتغاء ما عند الله لا ما عند الناس.

والأصل في هذا الانبعاث هو هذا التوتر الذي يحس به المسلم حين تدركه الصحوة، ويوقظه الوعي، وتمور به أعماقه، نتيجة التناقض بين إيمانه من جهة، وواقع أمته من جهة أخرى، فينطلق من حبه لدينه، ونصحه لله ولرسوله ولكتابه وأمته، وشعوره بتقصيره وتقصير الناس من حوله، وحرصه على أداء الواجب،  واستكمال النقص والإسهام في إحياء الفرائض المعطلة من حكم بشريعة الله، وتوحيد الأمة الإسلامية على كلمة الله، وموالاة أولياء الله، ومعاداة أعدائه، وتحرير الأرض الإسلامية من كل عدوان أو سيطرة غير إسلامية، وإعادة الدولة الإسلامية، أو الخلافة الإسلامية الواجبة شرعاً إلى القيادة من جديد، وتجديد فريضة الدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله بكل أنواعه وأدواته باليد أو اللسان أو بالقلب، وذلك أضعف الإيمان بالقواعد الشرعية والمنظمة لذلك، حتى تكون كلمة الله هي العليا. وكل ذلك يحتاج فهما وتربية، ولذلك كان مضمون الدعوة في مرحلة الإمام حسن البنا هو تحريك الأمة، وتحريك عقولها حتى تفهم، وتحريك قلوبها حتى تؤمن، وتحريك إرادتها حتى تصمم، وتحريك أيديها حتى تعمل.

فالدعوة عمل فكري تنويري يضيء العقول، وهي عمل دعوي تحريضي يحرك المشاعر، وهي عمل تكويني تربوي ينشئ الشخصية الإسلامية السوية، وهي عمل اجتماعي يساهم في حل مشكلات المجتمع وإشاعة الخيرية، وهي عمل اقتصادي يحرر اقتصاد الأوطان المسلمة من التبعية المطلقة للغرب ومن رجس الربا والمعاملات المحظورة، وهي عمل سياسي لإقامة حكم الإسلام وإعادة دولته وتطبيق شريعته، وهي عمل جهادي لتحرير أرض الإسلام في المشرق والمغرب من كل سلطان أجنبي بالمنهاج النبوي.

وهذا الذي نقول يحتاج إلى التأكيد على أن الإسلام رسالة تربية قبل أن يكون رسالة تنظيم وتشريع، ورسالة قيم قبل أن يكون رسالة جهاد وقتال، لذلك فهو يحتاج إلى فهم.

أولاً: أن الهدف من تطبيق المنهج النبوي هو إيجاد واقع عملي إسلامي تطبق فيه أحكام الشريعة نصاً وروحاً، لأنه لا يجب علينا أن نطالب الإسلام بإيجاد الحلول العملية لمشاكلنا قبل أن نجد له الواقع الذي نطبق فيه شريعته وأحكامه، وهذا لا يتحقق بالقهر والإجبار ولكن بالتربية والإقناع والإيمان.

ثانياً: أن العمل لتحقيق هذه الأهداف يجب أن يقوم على أساس التخطيط المرحلي، بحيث لا ينتقل العمل من مرحلة إلى أخرى، إلا بعد تحقيق أهداف المرحلة السابقة، وأن يتسم العمل في هذه المراحل بالمرونة، لأن طبيعة العمل في هذه المراحل متداخل مترابط، إذ إن تحقيق أهداف أي مرحلة سابقة سيساعد على تحقيق أهداف المرحلة اللاحقة، كما أن تحقيق جميع هذه الأهداف، سيؤدي حتماً إلى تحقيق الأهداف الكبرى للإسلام، فإيجاد الفرد المسلم سيساعد على تكوين الأسرة المسلمة، وتكوين الأسرة المسلمة سيساعد على تكون المجتمع المسلم وهكذا.

ثالثاً: أن العمل لتحقيق هذه الأهداف يجب أن يقوم على أساس العمل الجماعي، الذي يقوم على أساس وجود قيادة شعبية على رأس طليعة مؤمنة، تعمل لتحقيق قيادة الرأي العام الإسلامي، وتتكتل بعد ذلك الجهود لتحقيق أهداف الإسلام، لأن العمل الفردي أعجز من أن يحقق هذه الأهداف، ولأن دين الإسلام هو دين الجماعة التي تربى أفرادها على هذه المعاني.

منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات للأستاذ جمعة أمين رحمه الله.