https://ikhwan.online/article/261235
الجمعة 19 رمضان 1445 هـ - 29 مارس 2024 م - الساعة 03:39 م
إخوان أونلاين - الموقع الرسمي لجماعة الإخوان المسلمون
زاد الداعية

د. عبد الرحمن البر يكتب عن: الأضحية في الإسلام

د. عبد الرحمن البر يكتب عن: الأضحية في الإسلام
الأربعاء 6 يوليو 2022 09:36 ص

لقد جاء الإسلام الحنيف بالحب والتآخي والمواساة بين الناس، وشرع الله تعالى من الشرائع ما يحقق الأُلْفَة، وبخاصة في مواسم الخير وأعياد الأمة، ومن ذلك تشريع الأضحية في عيد الأضحى.

وإذا كان المسلم في عيد الفطر يواسي الفقير بإعطائه ما يغنيه عن المسألة في هذا اليوم، فيخرج صدقة الفطر طُهْرَةً لصيامه من اللغو والرَّفَث، وطُعْمةً للمساكين؛ فإنه يواسي الفقير في عيد الأضحى من جنس ما يتقرب به إلى الله في هذا اليوم المبارك وهو الأضحية، وبذلك يتعمق معنى التكافل، ويعيش المسلمون جميعًا فرحة العيد، وتتآلف القلوب، وتتقارب النفوس.

تعريف الأضحية

الأُضحية: بضم الهمزة على وزن أفعولة، ويجوز كسر الهمزة، ويجوز حذفها وفتح الضاد (ضَحية) فيكون الجمع ضحايا، كأنها اشتقت من اسم الوقت الذي شرع ذبحها فيه، وبها سمي اليوم يوم الأضحى، وجمعها: أَضَاحِيّ.

والأضحية في الشرع: اسم لما يُذْبَح من النَّعَم في أيام النحر بنية القُرْبة إلى الله تعالى.

فضل الأضحية

 الصورة غير متاحة

 د. عبد الرحمن البر

الأضحية من أفضل القربات وأعظم الشعائر التي يمارسها المسلم في أيام العيد الأكبر، إعلانًا بشكر نعمة الله، وامتثالاً لأمر الله ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)﴾ (الكوثر).

وقد رُوي في فضلها آثارٌ حِسانٌ، منها ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نفقةٍ بعد صلة الرحم أفضلُ عند الله من إهراق الدم" (1).

 

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: يا أيها الناس ضَحُّوا وطِيبوا أنْفُسًا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبدٍ توجَّه بأُضْحِيته إلى القبلة إلا كان دمُها وفَرْثُها وصوفُها حسناتٍ مُحْضَرَاتٍ في ميزانه يوم القيامة؛ فإنَّ الدمَ وإن وقع في التراب فإنَّما يقع في حِرْز الله حتى يوفِّيَه صاحبَه يوم القيامة" (2).

وعنها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما عمل آدميٌّ من عملٍ يومَ النحر أحبَّ إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يومَ القيامة بقرونِها وأشعارِها وأظلافها، وإن الدم لَيَقَعُ من الله بِمكانٍ قبل أن يقع من الأرض، فطِيبُوا بِها نفسًا" (3).

حكمها

فاختلف فيه العلماء على قولين:

1- ذهب أبو حنيفة إلى وجوب الأضحية على المقيمين القادرين عليها من أهل الأمصار، ولا تجب على المسافر، قال: ويجب على الرجل من الأضحية على ولده الصغير مثلُ الذي يجب عليه عن نفسه.

وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد، فقالا: ليست بواجبة، كما هو قول الجمهور.

قال أبو عمر ابن عبد البر: وهذا قول مالك، قال: لا ينبغي لأحدٍ تركُها، مسافرًا كان أو مقيمًا، فإن تركها فبئس ما صنع! إلا أن يكون له عذرٌ إلا الحجاج بِمِنَى.

والذي في الموطأ (4) من قول مالك: الضحية سنة، وليست بواجبة، ولا أحب لأحد ممن قوي على ثمنها أن يتركها.

واحتج القائلون بالوجوب بما يلي:

(أ) قوله تعالى ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)؛ حيث عطف النحر على الصلاة بصيغة الأمر، والأمر يقتضي الوجوب.

(ب) وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له سَعَةٌ ولم يضحَّ فلا يقربن مصلانا" (5).

ووجه الاستدلال به على وجوب التضحية على من كان له سَعَة: أنه لما نهى عن قربان المصلَّى دلَّ على أنه ترك واجبًا، كأنه يقول: لا فائدة في الصلاة مع ترك هذا الواجب.

(ج) وحديث مِخْنَف بن سُلَيمٍ رضي الله عنه قال: كنا وقوفًا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فسمعته يقول: "يا أيها الناس، على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعَتِيرة؛ هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبية" (6) دل لفظه على الوجوب.

(د) وقال ابن عمر رضي الله عنه: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي (7)؛ فلو لم تكن الأضحية واجبةً لما داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم.

(هـ) وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بُرْدة هانئ بنَ نِيَار أن يعيد ضحيةً أخرى لما ذبح قبل صلاة العيد؛ كما في حديث البراء الذي سيأتي بعد، فلو لم يكن واجبًا لما أمر فيه بالإعادة.

2- وذهب جمهور العلماء إلى أنها سنة ولا تجب، وترجم البخاري للباب الأول في كتاب الأضاحي بقوله: (باب سنة الأضحية، وقال ابن عمر: هي سنة ومعروف)، وقال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة.

وأجاب الجمهور عن أدلة القول الأول بما يلي:

(أ) أما الآية فمحتملة، فقد فُسِّر قوله ﴿وَانْحَرْ﴾ بوضع الكف على النحر في الصلاة (أخرجه ابن أبي حاتم وابن شاهين في سننه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس)، وفيه روايات عن الصحابة مثل ذلك، ولو سلم بأن النحر المقصود في الآية هو نحر الأضحية فهي دالة على أن النحر بعد الصلاة، فهي تعيين لوقته لا لوجوبه؛ كأنه يقول: إذا نحرتَ فبعد صلاة العيد، فإنه قد أخرج ابن جرير عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر قبل أن يصلى، فأمر أن يصلى ثم ينحر (8).

(ب) وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ فالصحيح أنه موقوف من كلام أبي هريرة فلا حجة فيه، وهو كذلك على تقدير رفعه غير صريح في الإيجاب.

(ج) وأما حديث مِخْنَف فضعيفٌ، لأن فيه أبا رَمْلَة، قال الخطابي: إنه مجهول؛ ولعل تحسين الترمذي وابن حجر إسنادَه كان بسبب أن أبا رملة قد تابعه عليه عبد الكريم بن أبي المخارق البصري عند عبد الرزاق والطبراني، والحق أنها متابعة لا تصلح لأن عبد الكريم متروك، ومع ذلك فلا حجة فيه؛ لأن الصيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق، وقد ذكر معها العتيرة، وهي ليست بواجبة عند من قال بوجوب الأضحية؛ بل قال بعضهم بنسخها كما سبق عن أبي داود، وإن كان تصحيح النسخ لا يعني نسخ تشريع الأضحية؛ لكن الصيغة على كل حال ليست دالة على الوجوب صراحة.

(د) وأما حديث ابن عمر رضي الله عنه فلا دلالة فيه على الوجوب؛ لأن الفعل المجرد ليس دليلاً على الوجوب، وقد قيل: إن الأضحية كانت واجبةً على النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة، والأحاديث في هذا التخصيص كلها ضعيفة.

(هـ) وأما حديث البراء في قصة أبي بردة؛ فالمقصود من الأمر بالإعادة بيان شرط الأضحية المشروعة، فهو كما لو قال لمن صلى راتبة الضحى مثلاً قبل طلوع الشمس: إذا طلعت الشمس فأعد صلاتك، وقد استدل البخاري على سنية الأضحية بهذا الحديث، فأخرج في باب: سنة الأضحية، عن البراء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبلُ؛ فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء"، فقام أبو بردة ابن نيار وقد ذبح فقال: إن عندي جذعة، فقال: "اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك".

قال مطرِّف: عن عامر، عن البراء رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ذبح بعد الصلاة تم نسكه وأصاب سنة المسلمين".

وأخرج عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه،ومن ذبح بعد الصلاة فقد تمَّ نسكه وأصاب سنة المسلمين" (9).

فإن قيل: إن المقصود بالسنة هنا الطريقة، وليس المقصود السنة التي تقابل الوجوب؛ قلنا: نعم؛ لكن لما لم يقم الحديث دليلاً على الوجوب فقد بقي الندب، ولهذا أورد البخاري الحديث في هذه الترجمة.

ولضعف أدلة الوجوب ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين الفقهاء إلى أنها سنة مؤكدة، بل قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، واستدل الجمهور بما يلي:

(أ) أخرج مسلم وغيره من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلت العشرُ فأراد أحدُكم أن يضحِّيَ فلا يأخذْ من شعره ولا بشره شيئًا" (10).

قال الشافعي: إن قوله "فأراد أحدكم" يدل على عدم الوجوب.

(ب) وأخرج النسائي بسند صحيح والدار قطني والبيهقي، وصححه ابن حبان، والحاكم ووافقه الذهبي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أُمِرْتُ بيوم الأضحى عيدًا جعله اللهُ عزَّ وجلَّ لهذه الأمة"، فقال الرجل: أفرأيتَ إنْ لم أجدْ إلا مَنِيحةً أنثى أفأُضحي بها؟ قال: "لا، ولكن تأخذ من شعرك، وتقلِّم أظافرَك، وتقص شاربَك، وتحلق عانتَك، فذلك تمامُ أضحيتِك عند الله عز وجل" (11).

(والمَنِيحة: هي الناقة أو الشاة تستعار ليُنتَفع بلبنها ثم تُعاد إلى صاحبها).

(ج) وأخرج مسلم وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم لما ضحى قال: "بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد" (12).

(د) وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصحَّحه الحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدَ الأضحى فلما انصرف أُتي بكبشٍ فذبحه، فقال: "بسم الله والله أكبر، اللهم إن هذا عني وعمن لم يضحِّ من أمتي" (13). ففي هذين الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عمن لم يضحِّ من الأمة، فدل ذلك على سقوط الأضحية عن الأمة.

(هـ) وأخرج الترمذي وغيره عن جَبَلَة بنِ سُحَيْمٍ أن رجلاً سأل ابنَ عمر عن الأضحية أواجبة هي؟ فقال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، فأعادها عليه فقال: أتعقل؟ ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون (14). قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأضحية ليست بواجبة، ولكنها سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْتَحَبُّ أن يُعْمَل بها، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك).

وكأن الترمذي رحمه الله فهم من كون ابن عمر رضي الله عنه لم يقل في الجواب نعم أنه لا يقول بالوجوب، وقد عُرف ابن عمر رضي الله عنه بحرصه على اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لم يصرح بالوجوب. وقد سبق ما نقله البخاري عن ابن عمر أنه قال: هي سنة ومعروف.

(و) أفعال الصحابة دالة على عدم الإيجاب، فأخرج البيهقي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنه أنهما كانا لا يضحيان كراهية أن يقتدى بهما، فيظن من رآهما أنها واجبة، وأخرج عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان إذا حضر الأضحى أعطى مولى له درهمين فقال: اشترِ بهما لحمًا، وأخبِر الناس أنه ضحى ابنُ عباس (15).

والروايات عن الصحابة والتابعين في هذا المعنى كثيرة دالة على أنها سنة، روى عبد الرزاق أبي مسعود البدري عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: لقد هممتُ أن أدع الأضحية، وإني لمن أيسركم بها؛ مخافةَ أن يُحسَب أنها حتمٌ واجبٌ (16)، وروى عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجبة الضحية على الناس؟ قال: لا، وقد ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم (17).
وقول الجمهور هو الراجح إن شاء الله تعالى.

 

آداب الأضحية

ثمة آداب شرعية ينبغي أن يلتزم بها من أراد أن يتقرب إلى الله بهذا العمل الصالح، منها ما يتصل بالمضحي نفسه، ومنها ما يتصل بعملية الذبح على النحو التالي:

آداب الْمُـضَـحِّي:

1- يجب أن يتحرى المضحي الإخلاص لله في عمله؛ إذ الإخلاص سر قبول الأعمال، والعبرة ليست بإراقة الدماء وإعطاء اللحوم، ولكن العبرة أساسًا هي بتقوى الله عز وجل، فقد قال تعالى ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ (الحج: من الآية 37) وقال تعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ (الأنعام)، والنسك هو الذبح تقربًا إلى الله.

فإذا تجاوز المسلم هذه المعاني، وخرجت الأضحية على سبيل المباهاة والتفاخر والرياء؛ فقد حبط عمله وبطل أجره.

2- يستحب أن لا يأخذ المضحي من أظفاره وشعره شيئًا إذا دخلت عشر الحجة، وكان راغبًا في التضحية، لما أخرجه مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلت العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا بشره شيئًا" (18).

ولما أخرجه النسائي والدار قطني والبيهقي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله عن الضحية، وأنه قد لا يجدها، فقال: "قلِّمْ أظافرك وقصَّ شاربك واحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل" (19)، وهذا فيه شرعية هذه الأفعال في يوم التضحية وإن لم يترك من أول شهر الحجة.

وذهب الإمام أحمد وإسحاق إلى أنه يَحـرم تقليم الأظفار وقص الشعر وحلق العانة ونحو ذلك لمن أراد التضحية؛ للنهي عن ذلك، وإليه ذهب ابن حزم، ونقل عن أم سلمة وغيرها أنهم أفتوا بذلك، ونسب هذا الرأي إلى الشافعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق وأبي سليمان والأوزاعي.

لكن النووي نسب ذلك لبعض الشافعية، وقال: قال الشافعي وأصحابه: هو مكروه كراهة تنْزيه وليس بحرام، وقال أبو حنيفة: لا يُكره، وقال مالك في رواية: لا يُكره، وفي رواية: يُكره، وفي رواية: يحرم في التطوع دون الواجب.

واحتج القائلون بالكراهة دون التحريم بأنه قد قامت القرينة على أن النهي ليس للتحريم، وهو ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث عائشة قالت: أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء مما أحله الله حتى نحر الهدي (20).

قال الشافعي: فيه دلالة على أنه لا يحرم على المرء شيء يبعثه بهديه، والبعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية. وحمل أحاديث النهي على كراهة التنْزيه.

وتعقب القائلون بالتحريم ذلك بأن هذا قياس منه، والنص قد خص من يريد التضحية بما ذكر.

والحكمة في النهي أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار، وقيل: الحكمة هي التشبه بالمحرم، والله أعلم.

3- يستحب للمضحِّي أن يتولى الذبح بنفسه، أو يشهد الذبح إذا لم يذبح بنفسه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح أضحيته بيده كما في حديث أنس الذي سبق من قبل، وكان يأمر نساءه وبناته أن يشهدن الذبح، فقد روى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة- أو لفاطمة-: "اشهدي نسيكتكِ؛ فإنه يُغفَر لك عند أول قطرة من دمها" (21).

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يأمر بناته أن يذبحن نسائكهن بأيديهن (22).

 

آداب ذبح الأضحية

ثمة آداب ينبغي أن يراعيها المضحي في اختيار أضحيته وفي طريقة ذبحها، وهاك أهمها:

1- استسمان الأضحية واختيارها من أطيب المال، فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: ومن يعظم شعائر الله، قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحَّى بكبشين سمينين.

وقال أبو أمامة بن سهل: كنا نُسَمِّن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يُسَمِّنون (23).

وكره بعضهم تسمين الأضحية؛ لئلا يتشبه باليهود، وهذا الحديث حجة عليهم.

وروى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ضحى مرة بالمدينة، قال نافع: فأمرني أن أشتري له كبشًا فحيلاً أقرن، ثم أذبحه يوم الأضحى في مصلى الناس، قال نافع: ففعلت… الحديث (24).

وقال عروة بن الزبير: لا يُهدِي أحدكم لله ما يستحي أن يهدي لكريمه، الله أكرم الكرماء وأحق من اختير له (25).

2- الرفق بالضحية، وذلك بشحذ السكين، وبإضجاع الغنم وعدم ذبحها قائمة ولا باركة، كما في حديث عائشة؛ لأنه أرفق بها، وعليه أجمع المسلمون.

وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبْح، ولْيُحِدَّ أحدُكم شفرتَه فلْيُرِح ذبيحته" (26).

ويكون إضجاع الغنم والبقر على جانبها الأيسر؛ لأنه أيسر للذابح في أخذ السكين باليمنى، وإمساك رأسها باليسار، ويضع رجله على صِفاح الكبش ليكون أثبت له وأمكن؛ لئلا تضطرب الضحية.

وأما الإبل فتنحر وهي قائمة مقيدة، فعن زياد بن جبير قال: رأيتُ ابن عمر رضي الله عنه أتى على رجل قد أناخ بدَنَتَه ينحرها، فقال: ابعثها قيامًا مقيَّدة، سنةُ محمد صلى الله عليه وسلم (27)، أي نحرها على هذه الهيئة هو سنة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد أوضح جابر بن عبد الله هذه الهيئة بقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البَدَنَة معقولة (أي مقيدة) اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها (28).

3- الذبح بعد صلاة العيد، لأن الذبح قبل الصلاة لا يجزئ كما سيأتي في بيان وقت الأضحية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من ذبح قبل الصلاة بأن يعيد الذبح.

4- التسمية، لقوله تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ (الأنعام: من الآية 121)، ولقول أنس بن مالك في حديث ذبح النبي صلى الله عليه وسلم أضحيتَه: ويسمي ويكبر، وجاء ذلك مفسرًا في لفظ عند مسلم بأنه قال: بسم الله والله أكبر.

5- التكبير، لقوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ (البقرة: من الآية 185)، ولقوله في هذا الحديث: ويسمي ويكبر.

6- تسمية من يضحي عنهم، لما أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأتي به ليضحي به، فقال لها: "يا عائشة، هلمي الْمُدْيَة (يعني السكين)" ثم قال: "اشحذيها بحجر"، ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: "بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد" ثم ضحى به (29).

7- 8- توجيهها للقبلة عند الذبح، والدعاء بقبول الأضحية وغيرها من الأعمال؛ لحديث عائشة السابق عند مسلم، ولما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال عند التضحية وتوجيهها للقبلة: "إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين؛ إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أُمرتُ وأنا أول المسلمين، اللهم منك ولك، عن محمد وأمته" (30).

وقد اختلف العلماء في الدعاء، فكان الحسن البصري يقول في الأضحية: بسم الله والله أكبر، هذا منك ولك، تقبل من فلان.

وقال مالك: إن فعل ذلك فحسن، وإن لم يفعل وسَمَّى الله أجزأه.

وقال الشافعي: والتسمية على الذبيحة بسم الله، فإن زاد بعد ذلك شيئًا من ذكر الله أو صلى على محمد صلى الله عليه وسلم لم أكرهه، أو قال: اللهم تقبل مني، أو قال: تقبل من فلان؛ فلا بأس.

وقال أبو حنيفة: يُكره أن يذكر مع اسم الله غيره، يكره أن يقول: اللهم تقبل من فلان عند الذبح، وقال: لا بأس إذا كان قبل التسمية، وقبل أن يضجع للذبح، وحديث عائشة وجابر يردان هذا القول، ويثبتان استحباب الدعاء.

ما لا تصح التضحية به

لا يجوز التضحية بالمعيبة عيبًا ظاهرًا، لحديث البراء بن عازب حين سُئل عن الأضاحي، ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كره، فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدي أقصر من يده، فقال: "أربع لا تُجْزِئ- وفي رواية: "لا تجوز في الضحايا"-: العوراءُ البَيِّنُ عَوَرُها، والمريضةُ البيِّنُ مرضها، والعرجاءُ البيِّنُ ظَلَعُها، والكسيرُ التي لا تُنْقِي" قال: قلتُ: فإني أكره أن يكون في القرن نقصٌ- أو قال: في الأذن نقص- أو في السن نقص. قال- يعني البراء-: "ما كرهت فدَعْه، ولا تُحرِّمْه على أحد" (31).

فالعوراء هي التي ذهب بصر إحدى عينيها، وظلعها- بفتح اللام وتسكينها- أي عرجها، والكسير: فُسر بالمنكسرة الرجل غير القادرة على المشي، وجاء في رواية: العجفاء، أي المهزولة، ومعنى (لا تنقي) بضم المثناة الفوقية وإسكان النون وكسر القاف: أي التي لا نِقْي لها بكسر النون وإسكان القاف وهو المخ، والمعنى: أنها ما بقي لها مخ من شدة العجف والهزال.

وقاس الجمهور على هذه الأربع غيرها مما هو أشدُّ منها أو مساوٍ لها كالعمياء ومقطوعة الساق.

وعن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن (أي نشرف عليهما ونتأملهما لئلا يقع نقص أو عيب) وأن لا نضحي بعوراء ولا مقابَلة، ولا مدابَرة، ولا شرْقاء، ولا خرقاء، وفي رواية: ولا ثرماء، وفي رواية: ولا جدعاء (32).

المقابلة: ما قطع من طرف أذنها شيء وبقي معلقًا، والمدابرة: ما قطع من مؤخر أذنها شيء وبقي معلقًا، والشرقاء: التي في أذنها ثقب مستدير، والخرقاء: مشقوقة الأذنين، والثرماء: ما سقطت ثنيتها أو الثنية والرباعية، أو ما انقطع سنها مطلقًا، والجدعاء: المقطوعة الأذن أو الأنف أو الشفة.

ولأحمد وأصحاب السنن عن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُضحَّي بعضْباء القرن والأذن، قال سعيد بن المسيب: العضب النصف فما فوق ذلك (33).

وقال بعض أهل اللغة: إن كُسر قرنُها الأعلى فهي قصماء، فأما العضَب فهو كسر الأسفل، وعضب الأذن: قطع بعضها.

وعند الشافعي: أن الأضحية بذلك مجزئة لكن تكره.

وقال بعض العلماء: تجزئ مكسورة القرن؛ لأن ذهاب ذلك لا يؤثر في اللحم فأجزأت كالجماء.

وقال أحمد: لا تجزئ الأضحية بأعضب القرن والأذن إذا ذهب ثلثها؛ لهذا الحديث.

وقال مالك: إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزئ، وإلا أجزأ، والله أعلم.

وقد ورد النهي عن أنواع أخرى:

فأخرج أحمد وأبو داود من حديث عتبة بن عبد السلمي أنه قال: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الْمُصْفَرَّة والْمُستَأصَلة والبَخْقاء والْمُشَيَّعة والكَسْراء، والمصفرة (بضم الميم وإسكان الصاد المهملة ففاء مفتوحة فراء مشددة): التي تُستأصَل أذنها حتى يبدوَ صِماخُها، والمستأصلة: التي استؤصل قرنُها من أصله، والبَخْقاء (بتقديم الباء على الخاء المعجمة): التي تُبْخَق عينُها (34)، والْمُشَيِّعة (اسم فاعل من شيع): التي لا تتبع الغنم عجَفًا وضعفًا: والكسراء: التي لا تُنْقِي (35).

وأما مقطوع الأَلْية والذنَب فإنه يجزئ لما أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اشتريت كبشًا أضحي به، فعَدَا الذئبُ فأخذ الأَلْية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ضحِّ به" (36)، واستدل به ابن تيمية في المنتقى على أن العيب الحادث بعد تعيين الأضحية لا يضر، وذهب بعض العلماء إلى عدم إجزاء مسلوب الألية.

وفي نهاية المجتهد: أنه ورد في هذا الباب من الأحاديث الحسان حديثان متعارضان، فذكر النسائي عن أبي بردة أنه قال: يا رسول الله، أكره النقص يكون في القرن والأذن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كرهتَه فدعْه ولا تحرِّمْه على غيرك" (37)، ثم ذكر حديث علي رضي الله عنه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين.

فمن رجح حديث أبي بردة قال: لا تتقي إلا العيوب الأربعة وما هو أشد منها، ومن جمع بين الحديثين حمل حديث أبي بردة على العيب اليسير غير البين، وحديث علي عليه السلام على الكثير البين.

قال أبو عمر ابن عبد البر: ولا بأس أن يضحي عند مالك بالشاة الهتماء إذا كان سقوط أسنانها من الكبر والهرم وكانت سمينة، فإن كانت ساقطة الأسنان وهي فتيَّة لم يَجُزْ أن يضحي بها؛ لأنه عيب غير خفيف، والنقصان كله مكروه.

 

الاشتراك في الأضحية

ذهب جمهور العلماء إلى جواز اشتراك مجموعة من الأفراد في الأضحية، وأنه تجزئ البقرة عن سبعة نفر ويجزئ البعير عن سبعة أو عن عشرة، وذلك لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة (38).

دل هذا الحديث على جواز الاشتراك في البدنة والبقرة، وأنهما يجزيان عن سبعة، وهذا في الهدي، وتُقاس عليه الأضحية، بل قد ورد فيها نص، فأخرج الترمذي والنسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة وفي الجزور عشرة، وفي رواية: وفي البعير سبعة أو عشرة (39).

قال الترمذي عقب حديث جابر: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال إسحاق: يجزي أيضًا البعير عن عشرة، واحتج بحديث ابن عباس.

وقد صح اشتراك أهل بيت واحد في ضحية واحدة، كما في حديث مخنف الذي حسنه الترمذي، قال النووي: سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين، مفترضين أو متطوعين، أو بعضهم متقربًا وبعضهم طالب لحم، وبه قال أحمد.

وذهب مالك إلى كراهة الاشتراك، فقال في الموطأ: وأحسن ما سمعت في البدنة والبقرة والشاة الواحدة: أن الرجل ينحر عنه وعن أهل بيته البدنة، ويذبح البقرة والشاة الواحدة هو يملكها ويذبحها عنهم ويشركهم فيها.

فأما أن يشتري النفر البدنة أو البقرة أو الشاة يشتركون فيها في النسك والضحايا فيخرج كل إنسان منهم حصة من ثمنها، ويكون له حصة من لحمها فإن ذلك يكره، وإنما سمعنا الحديث أنه لا يشترك في النسك، وإنما يكون عن أهل البيت الواحد (40).

ونقل عن مالك أنه لا يجوز الاشتراك في الهدي إلا في هدي التطوع، وهدي الإحصار عنده من هدي التطوع.

واشترطت بعض العلماء في الاشتراك اتفاق الغرض وقالوا: لا يصح مع الاختلاف؛ لأن الهدي شيء واحد فلا يتبعض بأن يكون بعضه واجبًا وبعضه غير واجب.

وادعى ابن رشد الإجماع على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة، قال: وإن كان روي من حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل البعير بعشر شياه، أخرجاه في الصحيحين (41)، ومن طريق ابن عباس وغيره: البدنة عن عشر، قال الطحاوي: وإجماعهم دليل على أن الآثار في الاشتراك صحيحة. اهـ.

ولا يخفى أنه لا إجماع مع خلاف من ذكرنا من العلماء، وكأنه لم يطلع عليه.

واختلفوا في الشاة فقال بعضهم: لا تجزئ إلا عن نفس واحدة، وهذا قول عبد الله بن المبارك وغيره من أهل العلم.

وقال بعضهم: إنها تجزئ عن ثلاثة في الأضحية، قالوا: وذلك لما تقدم من تضحية النبي صلى الله عليه وسلم بالكبش عن محمد وآل محمد، قالوا: وظاهر الحديث أنها تجزئ عن أكثر؛ لكن الإجماع قصر الأجزاء على الثلاثة.

قلت: وهذا الإجماع الذي ادعوه يباين ما قاله ابن رشد في نهاية المجتهد؛ فإنه قال: إنه وقع الإجماع على أن الشاة لا تجزئ إلا عن واحد.

والحق أنها تجزئ الشاةُ عن الرجل وعن أهل بيته؛ ويدخل في ذلك أولاده الذين يشتركون معه في معيشة واحدة، لفعله صلى الله عليه وسلم، ولما سبق في المسألة السابقة، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحَّى عن نسائه ببقرة، فمن فعل ذلك فهو أفضل، والله أعلم.

 

وقت ابتداء ذبح الأضحية

الأضحية شعيرة إسلامية لها وقت مخصوص، لا تصح في غيره، كسائر الشعائر والعبادات الموقتة بوقت خاص، لا يجوز أداؤها في غيره.

أما ابتداء وقتها فبعد صلاة العيد، فلو ذُبِحت قبله فهي لحم ولا تكون أضحية؛ لحديث جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: شهدت الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى صلاته بالناس نظر إلى غنم قد ذبحت، فقال: "من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله" (42).

وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذبح قبل الصلاة فلْيُعِدْ" فقال رجل: هذا يومٌ يُشْتَهَى فيه اللحمُ- وذكر هَنَةً (أي حاجة) من جيرانه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عَذَرَه- وعندي جذعة خير من شاتين، فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم، فلا أدري بلغت الرخصة (يعني صارت رخصة لغيره من المسلمين) أم لا؟ ثم انكفأ (أي النبي صلى الله عليه وسلم) إلى كبشين- يعني فذبحهما- ثم انكفأ الناس إلى غُنَيْمَةٍ فذبحوها (43).

وقد سبقت قصة أبي بردة ابن نِيَار، وأنه ذبح قبل العيد، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الذبح بعد صلاة العيد.

قال أبو عمر ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا بين العلماء أن من ذبح قبل الصلاة، وكان من أهل المصر أنه غير مُضَحٍّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء عند الشيخين: "من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم".

وقد اختلف العلماء في أول وقت الذبح بعد الصلاة:

1- فقال مالك، وروي عن الشافعي وأحمد أيضًا: المراد بعد صلاة الإمام، والألف واللام في قوله (الصلاة) للعهد، فيراد بها الصلاة المذكورة قبلها وهي صلاته صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لا يجوز قبل صلاة الإمام وخطبته وذبحه، إلا أن يؤخر تأخيرًا يتعدى فيه فيسقط الاقتداء به.

ودليل اعتبار ذبح الإمام: ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم (44).

قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم ألا يضحَّي بالمصر حتى يصلي الإمام.

وفي بعض روايات حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن خاله أبا بردة ابن نيار ذبح قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن هذا يوم اللحم فيه مكروه (يعني مكروه تأخيره، أو مكروه لكثرته في هذا اليوم فأحب أن يذبح قبل غيره حتى يُشتهى لحمه) وإني عجلت نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعد نسكًا"... الحديث.

2- وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية: بعد انصراف الإمام من الصلاة، ولم يشترطوا ذبحه، ونحوه عن الحسن والأوزاعي وإسحاق بن راهويه، وقد احتجوا بحديث البراء وفي بعض رواياته: "ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين"، فعلق الذبح على الصلاة، ولم يذكر الذبح، وأما ما ذكر في الأحاديث السابقة فالمراد منه زجرهم عن التعجيل الذي قد يؤدي إلى فعلها قبل الوقت؛ ولذا لم يأت في الأحاديث إلا تقييدها بصلاته صلى الله عليه وسلم.

وأجاب المالكية بأن حديث جابر يقيدها بصلاته صلى الله عليه وسلم، وكذلك حديث البراء أيضًا؛ حيث قال في بعض رواياته: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا" الحديث.

3- وقال الشافعي وداود: وقتها إذا طلعت الشمس ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين، وإن لم يصل الإمام ولا صلى المضحي.

قال القرطبي: ظواهر الحديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة؛ لكن لما رأى الشافعي أن من لا صلاة عليه مخاطب بالتضحية حمل الصلاة على وقتها.

وقال ابن دقيق العيد: هذا اللفظ أظهر في اعتبار الصلاة، وهو قوله في رواية عند مسلم في حديث البراء: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى"، وفي رواية: "فمن صلى صلاتنا ووجه قبلتنا ونسك نسكنا فلا يذبح حتى يصلي"، لكن إن أجريناه على أنها لا تجزئ الأضحية في حق من لم يصل العيد، فإن ذهب إليه أحد فهو أسعد الناس بظاهر هذا الحديث، وإلا وجب الخروج عن هذا الظاهر في هذه الصورة، ويبقى ما عداها في محل البحث، وقد أخرج الطحاوي من حديث جابر أن رجلاً ذبح قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى أن يذبح أحد قبل الصلاة. صححه ابن حبان.

وقول الحنفية والحنابلة أرجح.

وهذا كله بالنسبة لأهل الأمصار الذين تُقام فيهم صلاة العيد، وأما أهل البوادي ومن لا إمام له فمشهور مذهب مالك أنه يتحرى وقت ذبح الإمام أو أقرب الأئمة إليه.

وقال ربيعة وعطاء فيمن لا إمام له: إن ذبح قبل طلوع الشمس لم يجزه، ويجزيه إن ذبح بعده.

وقال أهل الرأي: يجزيهم من بعد الفجر، وهو قول ابن المبارك، ذكره عنه الترمذي فقال: وقد رخص قوم من أهل العلم لأهل القرى في الذبح إذا طلع الفجر. وهو قول ابن المبارك.

وتمسكوا بقوله تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ (الحج: من الآية 28) فأضاف النحر إلى اليوم، واليوم يبدأ من طلوع الفجر.

 

أيهما أفضل الأضحية أو التصدق بثمنها؟

اختلفت أقوال العلماء في أيهما أفضل: الأضحية أو الصدقة بثمنها:

فقال مالك وأصحابه: الضحية أفضل إلا بمنى؛ لأنه ليس موضع الأضحية، وهذا قول ربيعة وأبي الزناد، وبه قال أصحاب الرأي وأحمد بن حنبل، قالوا: الضحية أفضل من الصدقة؛ لأن الضحية سنة مؤكدة كصلاة العيد، ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل، وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله، قال سعيد بن المسيب: لأن أضحي بشاة أحبُّ إليَّ من أن أتصدق بمائة درهم (45).

وخالف في ذلك الشعبي وأبو ثور، وروي عن مالك أيضًا، فقالوا: الصدقة أفضل، وأخرج عبد الرزاق عن بلال رضي الله عنه أنه قال: ما أبالي لو ضحيت بديك، ولأن أتصدق بثمنها على يتيم أو مغَبَّر أحب إليَّ من أن أضحي بها (46).

والقول الأول أصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى هو والخلفاء من بعده؛ ولو كانت الصدقة أفضل لعدلوا إليها، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم....." الحديث، ولأن إيثار الصدقة على الأضحية يفضي إلى ترك سنةٍ سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم... والله أعلم.

----------------

* الهوامش:

(1) أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 22/192-193، والخطيب في تاريخ بغداد 3/59 من طريق مالك، عن ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، وقالا: غريب من حديث مالك.

(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8167)، وابن عبد البر في التمهيد 22/193.

(3) أخرجه الترمذي وحسّنه (1493)، وابن ماجه (3126).

(4) الموطأ ص 487.

(5) أخرجه أحمد (8273)، وابن ماجه (3123)، وصححه الحاكم 4/231، ووافقه الذهبي.

رجح غيرهما من الأئمة وقفه على أبي هريرة، قال ابن عبد البر في التمهيد 23/191: الأغلب عندي في هذا الحديث أنه موقوف على أبي هريرة والله أعلم.

(6) أخرجه أحمد (17889)، وأبو داود (2788)، والترمذي- واللفظ له- (1518)، وقال الترمذي: حسن غريب، وقوَّى ابن حجر إسناده في الفتح 10/4. وقال أبو داود عقب الحديث: العتيرة منسوخة، هذا حديث منسوخ.

(7) أخرجه الترمذي (1507) وقال: حديث حسن.

(8) تفسير الطبري 30/326.

(9) فتح الباري 10/3 (5545،5546).

(10) صحيح مسلم (1977).

(11) النسائي 7/212، والدار قطني 4/282، وابن حبان (5914) والحاكم 4/223، والبيهقي 9/263

(12) صحيح مسلم (1967).

(13) أحمد (14837،14893،14895)، وأبو داود (2810)، والترمذي (1521)، والحاكم 4/229.

(14) الترمذي (1506). وأخرج ابن ماجه نحوه (3124).

(15) مصنف عبد الرزاق (8139، 8146)، والسنن الكبرى للبيهقي 9/264، 265.

(16) المصنف (8148، 8149)، والبيهقي 9/265.

(17) المصنف (8135).

(18) سبق تخريجه.

(19) سبق تخريجه.

(20) أخرجه البخاري في مواضع كثيرة بألفاظ متعددة (1696: 1705 ،2217،5566)، ومسلم (1321).

(21) أخرجه عبد الرزاق (8168).

(22) أخرجه عبد الرزاق (7169).

(23) علقه البخاري في باب: أضحية النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين، ويذكر سمينين 10/9.

(24) الموطأ ص 483.

(25) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8158).

(26) أخرجه مسلم (1955)، وأبو داود 2815).

(27) أخرجه البخاري (1713)، ومسلم (1320).

(28) أخرجه أبو داود (1767).

(29) مسلم (1967).

(30) أخرجه أبو داود (2795) وابن ماجه (3121).

(31) أخرجه أحمد (8510،18542،18543،18667) وأبو داود (2802)، والترمذي وصححه (1497)، والنسائي 7/214، وابن ماجه (3144)، وصححه ابن حبان (5922) والحاكم 1/467.

(32) أخرجه أحمد (609،851،1061،1275)، وأبو داود (2804)، والترمذي- وصححه- (1498)، والنسائي 7/216،217، وابن ماجه (3142)، وصححه الحاكم 4/224، ووافقه الذهبي.

(33) أحمد (633،791،1048،1066،1157،1158، 1293،1294)، وأبو داود (2805،2806)، والترمذي- وصححه- (1504)، والنسائي 7/217، وابن ماجه (3145) وصححه ابن خزيمة (2913).

(34) أي تقلع من مكانها، قال ابن الأثير في النهاية 1/103: وقيل: البخق: أن يذهب البصر وتبقى العين قائمة منفتحة.

(35) أحمد (17652)، وأبو داود (2803)، والبيهقي 9/275، وصححه الحاكم 4/225.

(36) أحمد (11274)، وابن ماجه (3146)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/169، والبيهقي 9/289. وفيه جابر بن يزيد الجعفي ضعيف، وشيخه محمد بن قرظة مجهول، إلا أن له شاهدًا عند البيهقي.

(37) كذا قال ابن رشد، والحديث إنما هو حديث البراء بن عازب، وقد سبق تخريجه.

(38) أخرجه مسلم (1318)، والترمذي (1502).

(39) أخرجه الترمذي- وقال: حسن غريب- (905، 1501)، والنسائي 7/222، وابن ماجه (3131)، وأحمد (2484)، وصححه ابن خزيمة (2908)، وابن حبان (4007)، والحاكم 4/230، ووافقه الذهبي.

(40) الموطأ ص 486.

(41) البخاري (2488، 2507)، ومسلم (1968).

(42) أخرجه البخاري (5562)، ومسلم (1960).

(43) أخرجه البخاري (5561)، ومسلم (1962).

(44) أخرجه مسلم (1964).

(45) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8166).

(46) مصنف عبد الرزاق (8156).

-----------

** أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر الشريف