ما أشبه الليلة بالبارحة

  بعد أربعِ سنوات من سقوط راية الكِيان السياسي الجامع للمسلمين "الخلافة الإسلامية" عام 1924م، تأسست جماعة الإخوان المسلمين لتبعث الأمل من جديد في النفوس وتسعى للتعاون مع كل المخلصين من أبناء الأمة لعودة هذا الكيان من جديد.
 وقد انطلقت الجماعة منذ لحظات تأسيسها الأولى عام 1928م وهي تحمل مشروعًا حضاريًا واضحةٌ معالمه، محددةٌ خطواته، مرسومةٌ طريقه، يبدأ من الفرد المسلم ويمر بالأسرة المسلمة والمجتمع المسلم، إصلاحًا وتوجيهًا وبناءً وتقويمًا.
ويستمر المشروع منطلقًا في طريقه إلى المجتمع حتى يستوي على سجية الإسلام ويصطبغ بصِبغته، فيُحل ما أحلَّ ويُحرم ما حرَّم ويلتزم بما شرع وينضبط بما أمر:  {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} (البقرة: 138)، عندها يكون المجتمع مؤهلًا لأن يمارس حقه المشروع في تشكيل حكومة معبرةٍ عن فكرته الإسلامية، منضبطةٍ بهديها، مرتهنة بضوابطها، ملتزمة بحدودها.
وما كان لهذا المشروع الحضاري أن ينطلق إلى آفاقه الواسعة وسياقاته الرحبة قبل أن يتخلص من قيود السلطان الأجنبي وقيود المستبدين الذين صُنعوا على عين الاستعمار ومَنعوا الشعوب من أن تحصل على حريتها وتمارسَ حقها في تقرير مصيرها وإقرارِ هويتها، فكلاهما- الاستعمار والاستبداد- يعوقُ انطلاق الشعوب  ويمنع حِراكها ويقيد خطواتها.
وما إن يتحرر المجتمع من هذه القيود وتلك العقبات وينجح في تكوين حكومة تعبر عن هُويته وتسعى إلى تحقيق آماله؛ حتى ينطلق إلى آفاق التعاون مع المجتمعات التي اتفقت معه في الأهداف واتسقت معه في الآمال.
حينها تتحقق الوَحدة الإسلامية المنشودة ويعود الكِيان السياسي الجامع للأمة، يحمي الإنسانية من مصير مجهول في ظل تصوراتٍ مادية وانحرافات أخلاقية وتَنَكُّبٍ واضح عن الفطرة؛ فتعود الإنسانية إلى محاضنها الأولى وأخلاقها السوية.
وانطلاقًا من هذه الرؤية الواضحة والطريقة البينة، كانت السياسة جزءًا أصيلًا من  المشروع الحضاري الذي طرحته جماعة الإخوان المسلمين، وكانت المشاركة السياسية ركنًا ومكونًا رئيسًا من مكونات هذا المشروع.
إلا أننا وجدنا اليوم- وتحت وقع الضغوط المتزايدة على الجماعة- من يتكلم عما يُسمَّى  "فصل الدعوي عن السياسي أو الحزبي"، زاعمًا أن المشروع الجامع الشامل الذي طرحته الجماعة في بواكير نشأتها سيجر عليها كثيرًا من الأعباء، ومدعيًا أنّ اجتزاء المشروع الحضاري والتخليَ عن مقوماته الرئيسة من شأنه أن يقلل الضغوط عن الجماعة.
والحقيقةُ أنَّ هذا المشروع الشامل ما زال يملك رجالًا يذودون عنه ويتمسكون به بلا خوف أو وجل ويأبوْن التخلي عنه تحت سطوة القوة أو سلطة القهر، رجالًا يدفعون الثمن غاليًا ولا يفرطون في مبتغاهم ولا يتنازلون عن أهدافهم ولا يرتجفون أمام تزاحم المشاريع ولا يقعون فريسة حملات إعلامية مشبوهة نُظمت خصيصًا لتفريغ المشروع من مضمونه، وصرف أنصاره عنه.
إن هذه الأفكار بعيدة كل البعد عن المشروع الحضاري لجماعة الإخوان المسلمين، لا تخرج من مشكاته ولا ترتبط معه بنسب أو تقترب منه بصلة.

تحديات داخلية
وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين قد تميزت عن جهود نفر من العلماء والمصلحين المخلصين ممن سبقوها بهذا المشروع الحضاري المتكامل والمتوازن، فقد تميزت أيضا بدقة التنظيم الذي سعى ويسعى- من خلال تكاتف أعضائه وصلابه تكوينه- إلى مساندة الأمة في تحقيق أهدافها من خلال كتلة صلبة تكُون حجرَ عثْرةٍ أمام كل محاولات الإجهاض ورقمًا مؤثرًا في مواجهة كافة المشاريع التي تسعى لهدمه وعرقلة تقدمه.
وعلى امتداد تاريخ جماعة الإخوان المسلمين نجح التنظيم- في ظل مساندة شعبية واسعة- في مواجهةِ التحديات وتحقيق عدد من النجاحات كان من أبرزها مواجهةُ العصابات الصهيونية على أرض فلسطين، والنجاحُ المرحلي في إسقاط نظام مبارك، والمشاركةُ بدور بارز وأصيل في ثورة يناير 2011م.
 كما كان للتنظيم دورٌ فاعل في انتزاع الفوز بأول رئيسٍ مدني في تاريخ مصر وفرضِ أول تجربة ديمقراطية حديثة، حيث فاز الرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي- رحمه الله- بعد مواجهة ضروس مع الدولة العميقة.
وقد كانت المؤسسيةُ والتزامُ الشورى في اتخاذ القرارات من أبرز المحددات التي ساعدت في الحفاظ على التنظيم واستمراره رَغم مرور ما يقارب مائة عام على التأسيس.
ومن هنا كانت الحربُ الشرسة والمحاولات الإقليمية والدولية التي لا تتوقف؛ بهدف إجهاض هذا التنظيم أو تفكيك مؤسساته، أو حَرفه عن مشروعه الحضاري أو تحويله إلى فكرةٍ عامة أو تيار لا يحميه تنظيم ولا تسانده كتلةٌ صلبة ولا تحيطه مؤسسات شورية فاعلة.

بل كان من الملفت أن ينخدع بعض أبناء هذه الجماعة المباركة بحديث تتبناه أبواقٌ إعلامية موجهة وفقًا لأحدث الطرق العلمية للتأثير الجماهيري بهدف حَرف الجماعة عن مشروعها الحضاري وعن التمسك بنقاط القوة في هذا المشروع والتي يأتي التنظيم في مقدمتها.
وقد كان تاريخ جماعة الإخوان المسلمين شاهدًا على أن الأفراد مهما حملوا من ألقاب ومهما علت مكانتهم في نفوس إخوانهم؛ فستظل مؤسساتُ الجماعة هي الفيصلُ عند الخلافِ والعاصم- بعد الله تعالى- من الزلل.
فقد سبق أن أعفت مؤسساتُ الجماعة قياداتٍ في قمة الهرم التنظيمي بعد أن انفردوا برأي أو أصروا على تجاوز المؤسسات والقواعد المستقرة في الجماعة، أو حاولوا الخروج عن رأي الشورى.
ففي بواكير تاريخ الجماعة كانت إقالةُ الأستاذ أحمد السكري والذي كان يشغل منصب الوكيل العام لجماعة الإخوان المسلمين وكان مرشحًا بقوة ليكون خليفةً للإمام حسن البنا، ثم كان قرار الجماعة بإقالة عبد الرحمن السندي مسؤولِ النظام الخاص الذي أسسه الإمام البنا لمقاومة الاحتلال الاجنبي، ثم قامت الجماعة بحله بعد أن استنفذ أغراضه، ثم قامت مؤسسات الجماعة بإعفاء الدكتور محمد حبيب النائبِ الأول لجماعة الإخوان المسلمين.

بين فتنة التكفير وفتنة التأييد
  وبجانب تلك المحاولات المستميتة للقضاء على التنظيم كانت المحاولات- تسير جنبًا إلى جنب- لتغيير الأفكار المحورية للجماعة ومنطلقاتها وقناعاتها الفكرية، والدفع بعدد من أعضائها لتغيير منهج الجماعة السلمي وطريقها الواضح.
   فكانت المحاولات- في القديم كما هي في الحديث شِبرًا بشبر وذراعًا بذراع- تسعى لحرف الجماعة عن منهجها الوسطي وفكرها المنضبط بالشرع الحكيم، حيث جنح بعض المنتمين للجماعة- تحت الضغوط والممارسات القمعية- إلى التكفير حينًا وإلى العنف حينًا آخر، بينما أعلنت الجماعة رأيها واضحًا جليًا في رفض التكفير والعنف بعد أن أصدر الأستاذ حسن الهضيبي دراسته العلمية "دعاة لا قضاة"
 وفي المقابل وجد البعض- تحت ضغوط الاعتقالات والتعذيب- ضالته في تأييد المستبد لمحاولة الخروج من المحنة، وهو ما رفضته الجماعة وما زالت ترفضه، وإن وجدت عذرًا للأفراد، إلا أن الجماعة بمؤسساتها وقيادتها لم ولن تقبل بالاعتراف بمستبدٍّ أو تميلَ له بعض الميل.
لقد باءت- بحول الله تعالى- كل هذه المحاولات بالفشل، أمام صمودِ رجالٍ وثباتِ نساء يرفعون رايتها ويتقربون إلى الله بالثبات عليها طمعًا في أن يكونوا ممن قال الله تعالى فيهم: { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } (الأحزاب: 23).
وظل الجسم العام للجماعة عفيًا رغم المحن، قويًا رغم الضغوط، عصيًا رغم القمع والإرهاب، متمسكًا بثوابته بعيدًا عن التكفير، رافضًا للخنوع والاعتراف بالمستبدين، محافظًا على كيان مؤسساته، وفيًا لبيعته مع الله، متصديًا لكل محاولات العبث بالجماعة وأهدافها وثوابتها ومشروعها الحضاري.

اليوم كما بالأمس
 - واليوم- كما كان بالأمس- يسعى البعض للوقوع في شَرَك التأييد من جديد والاعتراف بالمستبد الذي قتل وشرد واعتقل وانتهك الحرمات وصادر الحياة السياسية وخرّب الاقتصاد وباع الوطن بثمنٍ بخسٍ دراهمَ معدودة.
 - واليوم هناك من يسعى لإلقاء طوق النجاة للمستبد كي يلتف من جديد على إرادة الشعب ويستقوي عليه ويقبل الدنية في دينه ووطنه وحقوق شعبه وحقوق المظلومين من المعتقلين والمهاجرين.
 - اليوم يسعى البعض لتجزئة المشروع الإسلامي الذي طرحته جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها لإعادة كيان الأمة ووَحدة بنائها، فيطالب بفصل المكوّن السياسي للمشروع الإسلامي عن مكونه الدعوي.  
 - اليوم هناك من يقع تحت وطأة الحملات الإعلامية الممنهجة والتي تستهدف القضاء على تنظيم جماعة الإخوان المسلمين وتحويله إلى تيارٍ عام.
 - اليوم هناك من يسعى لفصل أبناء الجماعة بالخارج عن جسد الجماعة الأصيل في بلد المنشأ تحت حُجج واهية.
 - اليوم هناك من يسعى لتقويض كِيان الجماعة ويصنع كيانات بديلة عن مؤسساتها الحقيقية.  
إن هذه المحاولات المستمرة والجهود الحثيثة التي لا تتوقف والتي وقعت فريسةَ استمالات صنعها الإعلام وروّجتها أذرعٌ تابعةٌ لجهات إقليمية ودولية، لن تفلح بإذن الله تعالى في تقويض الحلم أو تفكيك الجماعة أو تفريغ المشروع الإسلامي من مضمونه أو حَرفه عن طريقه.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21).
واللهُ أكبرُ ولله الحمدُ
 
اللجنة القائمة بعمل فضيلة المرشد العام لجماعة "الإخوان المسلمون"
الأحد ١١ ذي الحجة ١٤٤٣هـ الموافق ١٠ يوليو ٢٠٢٢ م