يقول الأستاذ سيد قطب فى تفسيره: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا. فظن أن لن نقدر عليه. فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فاستجبنا له ونجيناه من الغم. وكذلك ننجي المؤمنين}

لقد سمي ذا النون - أي صاحب الحوت - لأن الحوت التقمه ثم نبذه. وقصة ذلك أنه أرسل إلى قرية فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه، فضاق بهم صدرا، وغادرهم مغاضبا، ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم. ظانا أن الله لن يضيق عليه الأرض، فهي فسيحة، والقرى كثيرة، والأقوام متعددون. وما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة، فسيوجهه الله إلى قوم آخرين. ذلك معنى {فظن أن لن نقدر عليه} أي أن لن نضيق عليه.

وقاده غضبه الجامح، وضيقه الخانق، إلى شاطئ البحر، فوجد سفينة مشحونة فركب فيها. حتى إذا كانت في اللجة ثقلت، وقال ربانها: إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو سائر من فيها من الغرق. فساهموا فجاء السهم على يونس، فألقوه أو ألقى هو بنفسه. فالتقمه الحوت، مضيقا عليه أشد الضيق! فلما كان في الظلمات، ظلمة جوف الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل نادى: {أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} فاستجاب الله دعاءه، ونجاه من الغم الذي هو فيه. ولفظه الحوت على الساحل. ثم كان من أمره ما يفصله في سورة الصافات. فحسبنا هذا في هذا السياق. 

إن في هذه الحلقة من قصة يونس - عليه السلام - لفتات ولمسات نقف أمامها لحظات. 

إن يونس لم يصبر على تكاليف الرسالة، فضاق صدرًا بالقوم، وألقى عبء الدعوة، وذهب مغاضبًا، ضيق الصدر، حرج النفس؛ فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبه مضايقات المكذبين. ولولا أن ثاب إلى ربه! واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه، لما فرج الله عنه هذا الضيق، ولكنها القدرة، حفظته ونجته من الغم الذي يعانيه.

وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها. وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقا، ولكنه بعض تكاليف الرسالة، فلا بد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا، ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا.

إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب، ومن عتو وجحود، فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب، فقد تصل المرة الواحدة بعد المئة.. وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف.. ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أرصاد القلوب!

إن طريق الدعوات ليس هينا لينا، واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة، فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات، والنظم والأوضاع، يجثم على القلوب، ولا بد من إزالة هذا الركام، ولا بد من استحياء القلوب بكل وسيلة، ولا بد من لمس جميع المراكز الحساسة، ومن محاولة العثور على العصب الموصل.. وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة والصبر والرجاء، ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلا تاما في لحظة، متى أصابت اللمسة موضعها، وإن الإنسان ليدهش أحيانا وهو يحاول ألف محاولة، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود، وقد أعيا من قبل على كل الجهود! 

وأقرب ما يحضرني للتمثيل لهذه الحالة جهاز الاستقبال عند البحث عن محطة إرسال.. إنك لتحرك المشير مرات كثيرة ذهابا وإيابا فتخطئ المحطة وأنت تدقق وتصوب، ثم إذا حركة عابرة من يدك، فتتصل الموجة وتنطلق الأصداء والأنغام!

إن القلب البشري هو أقرب ما يكون إلى جهاز الاستقبال، وأصحاب الدعوات لا بد أن يحاولوا تحريك المشير ليتلقى القلب من وراء الأفق، ولمسة واحدة بعد ألف لمسة قد تصله بمصدر الإرسال!

إنه من السهل على صاحب الدعوة أن يغضب لأن الناس لا يستجيبون لدعوته، فيهجر الناس.. إنه عمل مريح، قد يفثأ الغضب، ويهدئ الأعصاب.. ولكن أين هي الدعوة؟ وما الذي عاد عليها من هجران المكذبين المعارضين!؟ 

إن الدعوة هي الأصل لا شخص الداعية! فليضق صدره، ولكن ليكظم ويمض، وخير له أن يصبر فلا يضيق صدره بما يقولون!

إن الداعية أداة في يد القدرة، والله أرعى لدعوته وأحفظ، فليؤد هو واجبه في كل ظرف، وفي كل جو، والبقية على الله، والهدى هدى الله.

وإن في قصة ذي النون لدرسا لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه. وإن في رجعة ذي النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها.