إن أعظم نعم الله على عباده هدايته إياهم، وفتح قنوات تواصلهم معه، ووصلهم إليه- سبحانه، وتعبيد الطريق لعباده، طريق العبودية، طريق الكمال، وذلك بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبيان معالم المنهج، ذلك المنهج الذي يكفل لهم السعادة والسيادة، والسكينة والفلاح، منهج الله الذي ارتضاه لهم، ووعدهم على اتباعه كل الخير، وأنذرهم بكل شر إذا هم خالفوه، {ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}. 

وحين يمن الله- سبحانه- على بعض عباده، ويصطفيهم لحمل مشاعل نوره وأسباب هدايته إلى غيرهم من عباد الله، فإنه الشرف الذي يقارب مقام النبوة العالى الكريم، فلا عجب أن يكون كتمان هذا الخير، والاشتراك مع الشيطان فى إضلال الناس- ولو بالسكوت- لا جرم أن يكون هذا الفعل جريمة بشعة، يستحق مرتكبها غضب الله.    

وفى هذا الشأن الخطير يقول الله تعالى فى سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١)}

ونحن هنا نقتبس من إشراقات الظلال ما فتح الله على صاحبها، ونطالع ما قاله سيد قطب حول هذه الآيات، رحمة الله عليه، إذ يقول: ولقد كان أهل الكتاب يعرفون مما بين أيديهم من الكتاب مدى ما في رسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- من حق، ومدى ما في الأوامر التي يبلغها من صدق، ومع هذا يكتمون هذا الذي بينه الله لهم في الكتاب. 
فهم وأمثالهم في أي زمان، ممن يكتمون الحق الذي أنزله الله، لسبب من أسباب الكتمان الكثيرة، ممن يراهم الناس في شتى الأزمنة وشتى الأمكنة، يسكتون عن الحق وهم يعرفونه، ويكتمون الأقوال التي تقرره وهم على يقين منها، ويجتنبون آيات في كتاب الله لا يبرزونها، بل يسكتون عنها ويخفونها لينحوا الحقيقة التي تحملها هذه الآيات ويخفوها بعيدا عن سمع الناس وحسهم، لغرض من أغراض هذه الدنيا.. الأمر الذي نشهده في مواقف كثيرة، وبصدد حقائق من حقائق هذا الدين كثيرة.. أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. كأنما تحولوا إلى ملعنة، ينصب عليها اللعن من كل مصدر، ويتوجه إليها - بعد الله - من كل لاعن 
واللعن: الطرد في غضب وزجر، وأولئك الخلق يلعنهم الله فيطردهم من رحمته، ويطاردهم اللاعنون من كل صوب. فهم هكذا مطاردون من الله ومن عباده في كل مكان.. 
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} هؤلاء يفتح القرآن لهم هذه النافذة المضيئة - نافذة التوبة - يفتحها فتنسم نسمة الأمل في الصدور، وتقود القلوب إلى مصدر النور، فلا تيئس من رحمة الله، ولا تقنط من عفوه. فمن شاء فليرجع إلى الحمى الآمن، صادق النية. وآية صدق التوبة الإصلاح في العمل، والتبيين في القول، وإعلان الحق والاعتراف به والعمل بمقتضاه. ثم ليثق برحمة الله وقبوله للتوبة، وهو يقول: وأنا التواب الرحيم وهو أصدق القائلين. 
فأما الذين يصرون ولا يتوبون حتى تفلت الفرصة وتنتهي المهلة، فأولئك ملاقون ما أوعد الله من قبل به، بزيادة وتفصيل وتوكيد: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ذلك أنهم أغلقوا على أنفسهم ذلك الباب المفتوح، وتركوا الفرصة تفلت، والمهلة تنقضي، وأصروا على الكتمان والكفر والضلال: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .. فهي لعنة مطبقة لا ملجأ منها ولا صدر حنون، ولم يذكر السياق لهم عذابا آخر غير هذه اللعنة المطبقة; بل عدها عذابا لا يخفف عنهم، ولا يؤجل موعده ولا يمهلون فيه. وإنه لعذاب دونه كل عذاب. عذاب المطاردة والنبذ والجفوة. فلا يتلقاهم صدر فيه حنان، ولا عين فيها قبول، ولا لسان فيه تحية. إنهم ملعونون مطرودون منبوذون من العباد ومن رب العباد في الأرض وفي الملأ الأعلى على السواء.. وهذا هو العذاب الأليم المهين. انتهى

وهكذا، يجب على كل من يؤمن بسمو هذه الرسالة، وخيرية ما أنزل الله على رسوله، وحاجة الناس إلي هذه الرسالة وكل ما فيها، بل حاجته هو نفسه لأن يتقبل فضل الله عليه، باصطفائه لهذا المقام، وحسن ظن الله به إذ علمه ما علمه، يجب على كل مؤمن أن يستصغر في ذلك كل هول، وأن يستعذب كل عذاب، وأن ينطلق يبلغ دين الله ودعوته، لا يحده شيء، ولا يرهبه شيء، ولا يشغله عن ذلك شيء.