أشرف الفار

استوقفتنى آية كريمة فى كتاب الله، وردت فى معرض حوار نبى الله العظيم نوح مع قومه، فقد قال نوح- عليه السلام- {....وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}، وقد أثارت هذه الكلمات القرآنية المجيدة فى النفس طيفًا من المشاعر والفكر، وجملة من المبادئ والقيم، فقد تجد في مثل هذه اللمحات القرآنية منبعًا ثرًا، ومجمعًا كريمًا لعلاجات النفوس، وبوصلة دقيقة لضبط الأمور، فقط، إذا تعمق المرء في فهمها، وبذل شيئًا من الوقت والجهد لاستخراج كنوزها.

من المعلوم أننا جميعًا ننظر إلى أنفسنا باعتبارنا محور الكون، كل فرد منا لديه هذه المشكلة، سواءً علم بذلك أم جهل، فالصواب هو ما أراه صوابًا، والباطل هو ما كان عندي باطلًا، والصالحون والفاسدون كذلك هم من اعتبرهم أنا على هذا الوصف، وهكذا كل شيء في هذه الحياة، فأنا الحكم، شعورى هو الشعور الصادق، وعلمى هو العلم اليقين، ووجهة نظري هى الصواب، والمخالف لذلك هو المخطئ، تلك صورة لما نحن عليه جميعا إلا من رحم الله.

ونحن مولعون بشكل مرضي بإصدار الأحكام، لا سيما على الأشخاص، وبالأخص على أولئك المخالفين لنا، نتلذذ بإنزالهم منازل دنيا، إن فى عقولهم وقدراتهم على التفكير ووزن الأمور، وإن فى أهليتهم النفسية، أو قدراتهم الشعورية، وغير ذلك. فكل مخالف مخطئ، وهو أدنى مني درجة أو درجات، وكما قال الشاعر: أزرى بنا أننا شالت نعامتنا    فخالني دونه بل خلته دوني

ونتيجة طبيعية لهذين المرضين يكون من السهل ازدراء واحتقار الآخر، وتهوين شأنه والاستخفاف به، وهذا بالضبط ما فعله قوم نوح، فهم في ذلك بشر من البشر، ونحن بشر مثلهم، لا يحدث كونهم كفارًا فارقًا في الطبيعة البشرية المشتركة، إلا أن يجتهد الإنسان في ضبط نفسه على مقتضى ما يحب الله ورسوله.

وهنا عندما تعلن الطبيعة البشرية عن مرض من أمراضها، وتظهر أعراضه، هنا يكون التوجيه النبوي، والهدي القرآني، الذى يصحح الفكرة، ويهدي للتى هي أقوم. فمن ذلك أن يعلم كل أحد أن حكمه وتقييمه لشخص ما ليس بالضرورة صوابًا، وليس مقبولًا في المطلق، فقد يكون الإنسان مخطئًا في ذلك الحكم، بل إن الأقرب للمنطق السليم أن يخطئ الناس فى الحكم على بعضهم البعض، وذلك مُشاهد مكرور فى حياتنا اليومية، فكم من العلاقات نشأت على تصور ما، ثم أثبتت التجارب خطأ الحكم والتصور، وكل المشكلات الزوجية خير دليل وأفصح شاهد عل ذلك، فمن ذا الذى يمكن توقع مثل تلك الخلافات بين من اختار بعضهم بعضًا وربما كان بعضهم شديد التمسك بالآخر، عميق الاقتناع بأن السعادة لا تمر إلا من ناحيته!

على أن القضية الأكثر خطورة هنا أن يتخيل الإنسان أن حكمه هذا ملزم، والأشد جنونًا أن يتصور أنه ملزم لله- سبحانه! فهو حينما يصدر حكمه المشكوك في صحته ينتظر من الله أن يعامل المحكوم عليه بمقتضى ذلك الحكم المعيب! وذلك ما فعله قوم نوح، فقد رأوا أن أتباع نوح ممن آمن به- إنما هو رعاع لا قيمة لهم، وقد عابوا عليه تقريبهم، ورعايتهم، واحترامهم، بل طالبوه بطردهم، وإبعادهم عن ساحته، فما يكون لهؤلاء- في حكمهم- أن يهتدوا إلى حقٍ، أو يتصلوا بوحي السماء، أو يحوزوا شرف صحبة الأنبياء. هكذا قالوا! .... وأنا أفعل ذلك! وأنت تفعله! أنا وأنت نظن أننا نعلم أقدار الناس، ونعلم منازلهم ومراتبهم عند الله، نعلم من الأقرب ومن الأبعد، نعلم من الضال ومن المهتدي. وذلك أمر نحتاج أن نراجعه، ونصححه، ونستغفر الله ونتوب إليه منه.

ذلك أن الله وحده، والله وحده- لا أحد سواه- هو أعلم بما نفوس العالمين، هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين، الله وحده هو أعلم بتقوى الناس، بورعهم، بعلمهم، بأعذارهم، بصدقهم، بكذبهم، هو أعلم بهم، وهو أعلم بك، وأعلم بغيرك.

 فمن الأدب مع الله، وهو فرض لازم، أن يعرف الإنسان حدوده فى هذه القضية، فلا يتجاوز قدره، لأن فى تجاوزه تطاول على علم الله، وعلى ما اختص الله- سبحانه- به نفسه. فالله أعلم، وهو الذى إليه تصير الأمور، هو الذى يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، هو الذى يقبل من عباده أعمالهم، وهو الذى يرد عليهم ما يشاء منها، كل ذلك بعلمه الذى ليس لأحد من خلقه مثله، وبقدرته على الخلق، وبأنه الملك.   

ومن هنا نأتى للنقطة الأخيرة فى هذه الخاطرة، ألا وهى التقرير الصريح- الذى لا لبس فيه- بأن التجاوز في هذا الأمر، واستباحة أعراض الناس، ومصائرهم، وتقديرهم، كل ذلك ظلم بين. نعم، من الظلم أن تصدر حكماً سلبيًا على أى إنسان، لا سيما إن لم تكن أهلًا لإصدار أحكام، ولم تكن مخولًا لإصدارها، من الظلم أن تضع نفسك في منزلة لم يضعك الله فيها، فهو ظلم لنفسك وظلم لغيرك ممن حكمت عليه، ولغيرك ممن يتأثر بما تقول، وفيه تجاوز واعتداء على حق من حقوق الله.    

على أن في الآية درسا آخر عظيما، ألا وهو أن نوحًا- عليه الصلاة والسلام- لم يتعصب للمؤمنين به، ولم يتشنج في الدفاع عنهم، ولم يتجاوز في تزكيتهم، وهو إن فعل شيئًا من ذلك فله كل العذر، فهم المؤمنون به، المصدقون له، الذين نصروه من دون غالبية القوم المنكرين دعوته ونبوته، المستهزئين به صباح مساء، هؤلاء المؤمنون هم خير من على وجه الأرض، وهم الذين نجاهم الله مع نبيه، ومع ذلك نجد النبيّ الكريم فى غاية الهدوء والاتزان، لا يبالغ في وصفهم، ولا يتجاوز، بل يكل أمرهم إلى الله، وكأنه يصادق على ما تعلمناه، ويتجنب الحكم على الناس أو لهم.