وائل قنديل
كان اقتحامُ الصهاينة المسجدِ الأقصى إجراءً رمزيّاً استفزازيّاً في سنواتٍ مضت، لكنه تحوّل هذا العام من الرمزيةِ إلى الإعلانِ عن تكريسِ واقعٍ جديد من دون أدنى قلق من صدورِ مواقف عربية، رسمية أو شعبية، يمكن أن تردع استعراض القوّة الإسرائيلي احتفالاً بذكرى احتلال القدس الشرقية وإعلان الهيمنة الكاملة على المدينة المقدّسة.
كان الصهاينة يحتلون المسجد الأقصى بالكامل والشوارع المحيطة به في المسيرة التي جاءتْ هذا العام في يوم ذكرى هزيمة العرب أمامهم عام 1967، وهو ما جعل ثمّة إمعانا في الحشدِ الاستعراضي الذي ضمّ آلاف المستوطنين والسياسيين الإسرائيليين، أمضوا اليوم كلّه يهتفون "الموت للعرب"، فيما كان العرب يواصلون الليل بالنهار نضالاً من أجل تمرير صفقة بايدن الإسرائيلية التي تستهدف بالمقام الأوّل استردادَ الكيان الصهيوني أسراه لدى المقاومة الفلسطينية في غزّة.
جاءت ردّات الفعل العربية على المسيرة أضعف كثيراً من مثيلاتها في الأعوامِ الماضية، فالبيانات الصادرة عن الحكوماتِ والهيئاتِ أقلّ حدّةً في لهجتها، فيما غابت مؤسّساتٌ كان من المفترض أن تكون أعلى صوتاً وأصلب موقفًا في الإدانةِ والاستنكار، وهنا تحضرُ مشيخة الأزهر الشريف الذي كان يدعو إلى التصدّي لمسيرةِ الأعلام قبل ثلاث سنوات، لكنه غاب هذا العام عن إصدارِ بيانٍ يستنهضُ الأمّة ويدعو إلى التصدّي لمن هتفوا "الموت للعرب وللمسلمين"، وسبّوا رسول الإسلام، فيما ظهر اسم شيخ الأزهر فقط في بيانٍ منسوبٍ لما يُعرف بمجلس حكماء المسلمين، الذي أسّسته أبوظبي عام 2014، يُدين اقتحام الأقصى.
قبل عامين، انتفضَ العربُ والمسلمون غضباً حين اقتحم وزير الأمن الداخلي الصهيوني، زعيم عصابة المستوطنين، إيتمار بن غفير، المسجد الأقصى المبارك، مصطحباً رموز منظمّة جبل الهيكل، حيث وعد المستوطنين بالسيطرة الكاملة، مكانيّاً وزمانيّاً، على الأقصى، مصرّحًا إنّ "كل التهديدات لن تُجدي... نحن أصحاب السلطة على القدس وعلى كل الأرض".
كما عقدت حكومة الاحتلال اجتماعها الأسبوعي داخل أحد الأنفاق تحت حائط البراق وأسفل المسجد الأقصى، للمصادقة على مشاريع تهويدية للمدينة، وفي مقدمتها ما يُسمّى "مشروع الحوض المقدس التهويدي".
اندلعت انتفاضة الأقصى الباسلة في ذلك الوقت، وانطلقت انتفاضة المقدسيين من حي الشيخ جرّاح يتصدّون للعربدة الإسرائيلية مسجلين ملحمة أسطورية في حمايةِ المقدّسات، تسندهم صواريخ المقاومة الفلسطينية التي انطلقت من غزّة على مناطق عدّة في الأراضي المحتلة، تقول إنّ القدس والأقصى يبقيان أيقونة الكفاح الفلسطيني من أجل تحرير الأرض.
في تلك الأثناء، ردّ الوزير بالحكومة الإسرائيلية، يتسحاق فسرلوف، ساخراً من إدانة الحكومة الأردنية اقتحام الأقصى بالقول "لقد طبعوا نسخة أخرى من وثيقة الإدانة السابقة"، غير أنّ الشعوب العربية كانت تسهرُ مع بسالةِ المقدسيين العزّل وجسارة المقاومين بالصواريخ من غزّة، فيشعرُ العدو بالخطر ويرفع حصاره عن الأقصى، لكن هذه المرّة مختلفة، إذ يشدّدُ الاحتلال قبضته على فلسطينيي الداخل منذ بدءِ عدوانه على غزّة، ويمارس تنكيلًا بكلِّ من يتخذ موقفًا ضدَّ مذابح الإبادة الجماعية في غزّة، فلم يستطع أحد التصدّي لاستهانةِ قطعان المستوطنين بالمقدّسات، ولا يمكن إلقاء اللوم عليهم، إذ يتلفتون حولهم فيجدون الأشقاء بين متواطئ بأجر ومتخاذل بعجز، وصنف ثالث منشغل بالكفاح من أجل تحقيق أحلام الرئيس الأميركي في صفقةٍ تُعيد الأسرى وتقضي على المقاومة وتحمي إسرائيل من أيّ خطرٍ محتمل في المستقبل.
المصدر: العربي الجديد