بقلم: د. محمد محمود منصور
إن الدعوة إلى الله والإسلام ليست أمرًا صعبًا أو همَّا ثقيلاً على المسلم والمسلمة! لأنها جزءٌ من فطرته وفطرتها، فكل منهما مفطور ومخلوق من خالقه بصفة حب البشر حوله وحُسْن التعامُل معهم؛ حيث ذلك يُسْعِد حياته هو أولاً، ثم حياة الجميع معه وبعده.
ولذا، فهو حين يراهم قد بعدوا عن ربهم وإسلامهم، اللذين هما المصدران الرئيسان للسعادة في الحياة، إذ يُوجِّهان لكل خير وأمان وهناءة، ويحفظان من كل شرٍّ وقلق وتعاسة، فإنه بفطرته يسعى بالحُسنى وبكل حب وحرص واجتهاد لإعادتهم لهما؛ لأنه يحب نفسه ويحبهم، يحب سعادته وسعادتهم في الدنيا والآخرة.. هكذا بكل بساطة وعمق ووضوح.
إنه يحب نفسه فلا يريد أن يُتعسها بالتعامل مع أناس ٍتعساء بسبب بُعدهم عن الله ونظامه، قد يؤذونه بالكذب أو الغدر أو الخداع أو الخيانة أو الكراهية أو الأنانية أو الظلم أو الغلظة أو غيرها من الصفات السيئة المُتْعِسَة.. وهو يحبهم فلا يريدهم أشقياء مُكتئبين بهذه الصفات والتعاملات، بل يريد لنفسه ولهم مجتمعًا متواصلاً مع ربه مُعِينه ومُوَفقه ومُؤيده، مجتمعًا صادقًا ودودًا شفافًا أمينًا عادلاً متعاونًا متحاورًا منتجًا متطورًا، مجتمعًا سعيدًا في الداريْن.
إنَّ الأدلة على فطرية الدعوة كثيرة، أشهرها:
* بمجرد أن أسلم أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- دعا مَنْ يثق بهم ويحبهم ويتعامَل معهم حوله لِمَا هو عليه من الخير والسعادة، فأسلم بدعوته عددٌ مِمَّن أصبحوا صحابةً كرامًا بُشِّرَ بعضهم بعد ذلك بالجنة أثناء حياته، وهو لم يعلم بَعْدُ إلا القليل عن تفاصيل الإسلام!!.. ولكنه الحب الفطري له ولخالقه ولدعوة البشر إخوانه في البشرية المحيطين به إليه.
جاء في سيرة ابن هشام: "قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه ودعا إلي الله وإلى رسوله، وكان أبو بكر رجلاً مألوفًا لقومه محببًا سهلاً.. فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام مَنْ وَثَقَ به مِن قومه مِمَّن يغشاه ويجلس إليه.. فأسلم بدعائه- فيما بلغني- عثمان بن عفان.. وعبد الرحمن بن عوف.. وسعد بن أبي وقاص.. وطلحة بن عبيد الله".
* كذلك، بمجرد أن أسلم سحرة فرعون، لمَّا رأوا آيات الله العظمى، تذكروا، فتحوَّلوا فورًا، وبمجرد أن تخلصوا من سيطرة سوء تفكيرهم، إلى نداء العقل والفطرة المُبَرْمَجَين أصلاً من خالقهما على الخير، تحوَّلوا إلى دعاةٍ يدعون قومهم، بل ورئيسهم المُعانِد المُتجبِّر المُتعالِي، بأفضل وأنسب وسائل الدعوة، على الرغم من أنهم لم تمر على لحظة إسلامهم إلا لحظات!! وهُم لم يتعلموا بَعْدُ شيئًا عنه أو كيفية الدعوة!.
قالوا مثلاً لفرعون: ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)﴾ (طه).
بل وأبدوا استعدادًا تامًّا للتضحية بكل ما يملكون إذا احتاج الأمر لذلك، عندما هدَّدهم فرعون بالإيذاء، مقابل عودة غالبية قومهم للخير وللسعادة: ﴿قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)﴾ (الشعراء)، فإن عاشوا بعد هذا كانت حياتهم كلها عِزَّة وتقدُّم وإنجاز وسعادة، وإن ماتوا كانوا شهداء في أعلى الجنان مع أول قطرةٍ من دمائهم، فكلاهما خير، وهي إحدى الحُسنييْن.
يقول الإمام ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" عند شرحه لقوله تعالى: ﴿َأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)﴾ (طه) ما يُفيد أنَّ الدعوة فطرية، وأنه بمجرد أن تزول عن العقل والقلب مؤثرات البيئة الخارجية التي تدعو إلى الكفر والشر والبعد عن الإيمان والخير، فإنهما سرعان ما يعودان إلى الخير الذي برمجهما خالقهما عليه، بل وبحكمةٍ وموعظةٍ حسنة ولين ورفق مع ثباتٍ دون تراجُع أو تردد يدعوان الغير حولهما له، كما في الآيات السابقة.. يقول: ".. أصبحوا أهل إيمان ويقين، وكذلك شأن المؤمنين بالرسل إذا أشرقت عليهم أنوار الرسالة، فسرعان ما يكون انقلابهم عن جهالة الكفر وقساوته إلى حكمة الإيمان وثباته، ولنا في عمر بن الخطاب ونحوه مِمَّن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم مَثلَ صِدْق".
إنَّ معرفة ما سبق ذكره سيُعَجِّل بإذن الله بانتشار الإسلام وأخلاقه؛ لأن كل مسلم سيَستسْهِل الدعوة إليه قدْر استطاعته، بل وسيُجيدها بقليلٍ من العلم والتدريب، وسيُؤدِّيها بالصورة التي سيراها مناسِبَة مُثمِرَة حسب بيئته وظروفه وأحواله هو ومَنْ حوله.. بل هذه المعرفة ستجعله واثقًا من أنه سيُحْسِن أداءها، بل وسيَجدها بكل سهولة مُصاحِبةً له على مَسَار حياته، وفي كل شئونها وتخصصاتها، كما يُفهَم ضمنًا من قوله صلى الله عليه وسلم المعروف: "الدين النصيحة" قلنا لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (رواه مسلم وغيره)، أي أنَّ كل نظام الإسلام ينبني على النصيحة الصادقة الودودة والتذكرة به وبدونها لن يكون هناك دين!.
فالمسلم لأنه مُتديِّن، أي مرجعيته في تصرفاته وأقواله هو الدين وأخلاقه، دين الإسلام، والذي كله أو معظمه التناصح بالخير، هو ينصح غيره بالحسنى بكل خير، وبكل صدق ووُدّ، وبما يناسب، وفي توقيتٍ ملائم، حتى يسعد الجميع دائمًا.
إنَّ الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم لن يطلب دوام التناصح بالخير إلا إذا كان مُتيقنًا من أنَّ الإنسان يستطيع ذلك بكل حب وسهولة واقتدار؛ لأن خالقه قد فطره وبَرْمَجه عليه منذ خلقته.
إنَّ في هذا الدوام بالنصيحة حفظًا لدوام الأخلاق، وبالتالي حفظًا لدوام سعادة البشر في الداريْن، وحفظًا لهم من كل الزلل والخطأ وتعاساته.
يقول الإمام النووي في "شرح مسلم" عند شرحه للحديث "الدين النصيحة": "قال الخطابي: مِن نصح الرجل ثوبه إذا خاطه، فشبَّهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بما يَسدّه من خلل الثوب، وقيل النصيحة مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، فشبَّهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط، ومعنى الحديث أنَّ عماد الدين وقوامه النصيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" أي عماده ومعظمه عرفه.. والنصيحة لله معناها الإيمان به.. والقيام بطاعته واجتناب معصيته.. والإخلاص في جميع الأمور والدعاء (الدعوة) إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها والتلطف في جمع الناس أو مَنْ أمكن منهم عليها.. والنصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم.. بث دعوته ونشر شريعته.. وأما نصيحة عامة المسلمين فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم.. والشفقة عليهم.. وأن يحب لهم ما يحبه لنفسه من الخير ويحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه.. قال ابن بطال: النصيحة ُتسمَّى دينًا وإسلامًا.. والنصيحة لازمة على قدْر الطاقة إذا علم الناصح أنه يُقبَل نصحه ويُطاع أمره وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي على نفسه أذى فهو في سعة..".
ويقول فيه الإمام المناوي في "فيض القدير": ".. والناصح في دين الله هو الذي يؤلف بين عباد الله وبين ما فيه سعادتهم..".
ويقول فيه الإمام العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري": "حديث عظيم جليل حفيل عليه مدار الإسلام.. ومنهم من قال يُمكن أن يُستخرج منه الدليل على جميع الأحكام".
ويقول الإمام السندي في حاشيته على شرح سنن النسائي: ".. فالنصيحة لله تعالى أن يكون عبدًا خالصًا له في عبوديته عملاً واعتقادًا.."، فهو يعمل بنظام الإسلام الذي يُسعده خالصًا دون اتباع أي نظام آخر يُتعسه أو لو أسعده سيُسعده جزئيًّا لا كُليًّا.
هذا، وإذا كانت دعوة الغير للخير فطرية، فإنَّ هذا يعني تلقائيًّا وبديهيًّا وبالضرورة أنَّ استقبالها أيضًا فطري، فهناك صفة موجودة مغروسة وخلق مخلوق من الخالق الكريم في نفس كل مدعو يدعوه للبحث عن الخير، حتى يعود لأصله، فالخير هو أصل خلقته، وما جاءه من شر هو استثناء حينما يُلغِي عقله ويستجيب لوساوس شيطانه، حتى يرتاح ويطمئن ويَسعد.. ﴿فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: من الآية 30)، (برجاء مراجعة مقالة "النفس المظلومة" ومقالة "برمجة العقل إلى الخير أم الشر").
بهذا، سيجد المسلم المتعة في الدعوة إلى الله والإسلام، وسيرَيَ فيها إسعادًا لنفسه وللآخرين؛ حيث هي تُصَوّبهم لكل خير وسعادة، ولن يجدها أبدًا يومًا ما هَمَّا ثقيلاً وعِبئًا؛ لأنها فطرية.. ولأنَّ الاستجابة لها أيضًا فطرية.
فكن مطمئنًا واثقًا أيها المسلم أنك ستدعو، وبحب وبجدية وبجودة وبسهولة، وستجد الدعوة مُصاحبة لك مُيَسَّرَة سَلِسَة في كل قول وفعل من حياتك، وسيُحْسِن المدعوين استقبال دعوتك؛ لأنهم ينتظرونها، ليطمئنوا وليسعدوا؛ لأنَّ الأمر كله فطري مغروس موجود.. فإلى مزيدٍ منها أيها الداعي.. إلى مزيدٍ من السعادة والاطمئنان في الدنيا.. وأعظم وأخلد في الآخرة.