- جماعة الإخوان كان لها 70 ألف جوال في عشر سنوات

- أفضل فطار أو سحور في السجن قبل الثورة 3 أرغفة وطبق فول

- الشهيد محمود عبد اللطيف كان رفيقي وحادث المنشية مفبرك


حوار: أحمد زايدة

الحاج محمد نجيب أحد شهود العيان لتاريخ الإخوان المسلمين، عندما تجلس معه يسرد لك وقائع وحكايات شيقة عن تاريخ هذه الجماعة، يحكي لك عن الاعتقال والسجن وعلاقاته بالمرشدين، وكلما اتسع معه الوقت تجول بك في تاريخ الإخوان، وقد التقينا بالحاج محمد نجيب وحدثنا عن ذكرياته مع الإخوان ورمضان.


* تعد أحد شهود العيان على تاريخ الإخوان كيف تعرفت عليهم؟

** تعرفت على الإخوان المسلمين في ششتة مركز زفتى- غربية؛ حيث بدأ الأستاذ حسن البنا في زيارة لمركز زفتى يعلم تلاميذه والشباب الذين يعملون معه وطلب منهم أن يعدوا له دراسةً عن القرى التي حول زفتى؛ ومن ضمن القرى التي أعجب البنا بها وبوعيها هي (ششتة- مركز زفتى) وزارها الأستاذ البنا وأعطانا موعدًا وبالطبع انتظرناه؛ وكانت مفاجأةً لأهل القرية أن دخل الأستاذ البنا علينا بعدد كبير جدًّا من رهط الجوالة وكان لها بالطبع الخطوات والنشاط القوي والتكبير (الله أكبر ولله الحمد والله غايتنا)؛ فهذه الكلمات والصيحات هزَت ششتة كلها وأصبحت الناس تردد مع الجوالة؛ وكان موقفًا عظيمًا جدًّا وترك في نفوس أهل هذه القرية أثرًا عظيمًا.


واحتفلت القرية بالأستاذ البنا في المدرسة، وألقى كلمةً وذكر فيها قصة سعد السلمي مع النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال: "إن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان من أصحابه سعد السلمي وكان سعد فقيرًا دميمًا محدودًا؛ ولقد ذهب سعد إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله أدمامتي هذه تمنعني من دخول الجنة؟ فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: لا يا سعد ولكن أكرمكم عند الله أتقاكم؛ فقال له يا رسول الله لقد عرضت نفسي على كل أصحابك فلم يتقبلني أحد؛ فتألم النبي- صلى الله عليه وسلم- من مقولة سعد وقال له: "يا سعد أذهب إلى دار عمرو بن وهب وأقرئه مني السلام وقل له النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول لك زوجني ابنتك؛ فذهب سعد إلى دار عمرو بن وهب وطرق الباب وعندما خرج سعد أقره سلام النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ وقال له النبي- صلى الله عليه وسلم- يقرؤك السلام ويقول لك زوجني ابنتك؛ فطبعًا هذا الرجل من قبيلة كبيرة وكان عدد كبير من شباب القبائل يترددون عليه ليكسبوا رضاه حتى يقبل أن يكونوا طلابًا لابنته؛ ولكن عندما رأى سعد بدت عليه علامات الحيرة ووقف متحيرًا فعندما رأته زوجته أتت إليه وقالت ما بالك يا عمرو؟ فقال لها أرسل إلينا النبي- صلى الله عليه وسلم- سعد السلمي وقال له يريد أن أزوجه ابنتي وهذه رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- إلي؛ فقالت له زوجته اعتذر له وأمهله حتى نفكر ثم نعود إليه؛ فاعتذر عمرو بن وهب لسعد وقال إن شاء الله سنفكر ونرد على النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ فلمَا رجع سعد وكان ما زال عمرو بن وهب زوجته يتهامسان رأتهما ابنتهما فقالت لهما: يا أبتاه فيم تتهامسان؟ قالوا يا بنيه لقد أرسل إلينا النبي- صلى الله عليه وسلم- سعد السلمي ففرحت جدًّا وبدأت تردد "أرسل إلينا النبي.... أرسل إلينا النبي" وهي سعيدة وفرحة جدًّا؛ فقالوا لها أرسل إليك ليخطبك لسعد السلمي وأنتِ هل تعلمين من هو سعد؟ قالت يا أبي أذهب إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يفضحنا الوحي؛ وقل له رضينا بما يُرضيك يا رسول الله؛ فذهب عمرو بن وهب إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله رضينا بما يرضيك، والتقى عمرو بن وهب بسعد السلمي عند النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال النبي: "يا سعد مَهر زوجتك؛ فقال- صلى الله عليه وسلم- مهرها ولو بخاتم من فضة؛ قال يا رسول الله: ليس معي خاتم من حديد؛ فنطر النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه وقال لهم: مهروا سعدًا؛ فجمعوا له مالاً كثيرًا وقدموه لسعد، وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لسعد: اذهب وجهز كل ما تحتاجه وأحضر كل ما يحب أن يكون معك؛ وذهب سعد إلى السوق وهو في طريقه سمع مناديًا ينادي (يا خيل الله أركبي.... يا خيل الله أركبي.... حي على الجهاد.... حي على الجهاد) ففرح سعد لأن ظروفه السابقة لم تكن تؤهله لأن يكون مقاتلاً ومجاهدًا في سبيل الله وأن يكون لله خاطبًا للحور العين؛ فلما وجد ما يعد به نفسه للجهاد ذهب إلى السوق وأحضر كل ما يحتاجه من سيف ورمح وفرس؛ حتى أصبح قادرًا على القتال؛ وعندما امتطى جواده وهم أن يذهب إلى القتال؛ قال: والله إني لأخاف أن أفسد على المسلمين أن يتحيروا في؛ ويقولوا لقد ترك سعد الزواج.. لقد ترك سعد عروسه؛ فتلثم حتى يحفظ على نفسه سره وحتى لا يشغل المسلمين به ونزل إلى القتال وهو عازم أن يكون أول شهيد وأن يقتل من المشركين ما يستطيع حتى يتقبله الله؛ حتى أن بعض الصحابة قالوا يا رسول الله أبشر لقد رأينا الملائكة تحارب معنا وهم يقصدون سعد؛ وعندما انتهت المعركة وبدأ النبي- صلى الله عليه وسلم- يتفقد الجرحى والقتلى وجد الرجل الملثم وكشف لثامه ورأى الصحابة هذا الرجل الملثم.... قالوا يا رسول الله هذا من كنا نظنه ملكًا من الملائكة وعندما رفع اللثام وجده (سعدًا السلمي)؛ فبكى النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم قام ثم ضحك؛ فقال الصحابة: يا رسول الله ما أبكاك؟ قال بكيت لفراق سعد؛ قالوا: وما أضحك؛ قال ضحكت عندما وجدت الحور العين يتسابقون عليه؛ وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- "كل ما تركه سعد أرسلوه لزوجه وإلى بيت عمرو بن وهب"؛ فهذه القصة كان لها معانٍ كثيرةٌ جدًّا في قرية دخلها الأستاذ البنا مرات أخرى حيث زارها في العام الذي يليه وطبعًا ظهروا له بعد أن أعدوا أنفسهم ولبسوا ثياب الجوالة وكونوا رهطًا وافتخر بهم الأستاذ البنا- رحمة الله عليه- ونحن تعلمنا من هذه القرية وعلمنا أساتذة هذه القرية ثم ذهبنا إلى المحلة وعشنا مع إخوان المحلة.


* ما الذي جذبك إلى هذه الدعوة وتلك الفكرة بالذات في ذلك الوقت؟
 
 الصورة غير متاحة

الإمام حسن البنا

**

بعض القيادات التي عرفناها تعلمنا منها؛ عرفنا منهم قصة الأستاذ البنا- رحمة الله عليه- وكيف عاش وهو يحمل همَّ هذه الأمة من بعد سقوط الخلافة وضياع الأندلس وأصبحت الأمة الإسلامية مباحةً لكل أعداء الإسلام والمسلمين؛ وكما قال جمال الدين الأفغاني: "إن الغرب اتفقوا واتحدوا على ألا يقوم للإسلام في الشرق قائمة أخرى"، وعرفنا أن غاية هذه الجماعة الجهاد والعمل من أجل عودة هذا الدين ورفع منهج الإسلام؛ وقد بنى الأستاذ البنا هذه الجماعة على الحب وعشنا في هذا الحب حتى أصبح الأخ منا يؤثر أخاه على نفسه ثم انتقلنا إلى إخوان المحلة وعرفنا أكثر مما عرفنا في ششتة؛ ومن هنا عرفنا عز هذه الجماعة؛ وما زلنا نعيش في هذا العز حتى الآن.

جوالة الإخوان

* كيف انضممت إلى جوالة الإخوان المسلمين؟

** لقد رأينا الجوالة عندما جاءوا ليفتتحوا شعبة ششتة فكانت هذه الصورة- صورة جوالة الإخوان المسلمين- حيةً في نفوسنا وكان أملي أن أكون جنديًّا وألبس زي هذه الجوالة وأعيش لأموت في سبيل الله؛ وعندما ذهبنا إلى المحلة اشتركت في جوالة المحلة تحت قيادة الأخ هنداوي دوير وكان قائدًا عظيمًا؛ تعلمنا على يديه وعرفنا منه أكثر مما كان يعرفه المؤسس للجوالة نفسها اللورد بادن بأول، وعشنا معه في كل رحلات الجوالة وأصبحنا نعد أنفسنا للرحلات.


* هل كان للجوالة نشاط مميز في هذه الفترة؟ وماذا كان دورها في خدمة ونشر الدعوة؟

** الجوالة أدخلها الأستاذ البنا للجماعة عندما تعرف على الصاغ محمود لبيب؛ وكان الأستاذ يخطب في المسجد؛ ويدعو الناس أن يقوموا ويعدوا أنفسهم لضرب هذا المستعمر حتى تعود لهم أرضهم كما كانت من قبل؛ وكان يقول وهو على المنبر (قوموا أيها الناس وجهزوا أنفسكم وأعدوا أنفسكم)، وعندما قال هذا الكلام كان له وقع عظيم في نفس الصاغ محمود لبيب؛ فعندما نزل من على المنبر وبعد الصلاة ذهب إليه وشكره؛ وقال له يا سيدي لقد كنت صاحب فكرة وابتليت بها وجاهدت في سبيلها ولكن الآن أسمع منك هذه الفكرة التي فيها السهولة وفيها الإلمام؛ فهلا أخذتني معك؟ ومن هنا بدأ الأستاذ البنا يعد الجوالة؛ وقال للصاغ محمود لبيب: (عندنا الآن الهيئة الكشفية يجب أن تكون بأكبر عدد)، وبدأ الصاغ محمود لبيب من سنة 1933 إلى سنة 1946 يعد ذلك؛ وأصبح لدى جماعة الإخوان المسلمين سبعين ألف جوال؛ ومن هنا كانت المقاومة القوية لضرب الإنجليز في كل موقع وضرب اليهود في حارة اليهود وفي كل مكان ردًّا على أعمالهم في فلسطين أو تجاوزاتهم ضد الفلسطينيين؛ وهذه الجوالة كانت قوةً غالبةً وكان لهذه الشجاعة والقوة دور في إرهاب اليهود في حرب فلسطين لولا أن تدخل الإنجليز والفرنساويين والأمريكان.


* هل كانت لكم معسكرات وأنشطة خلال شهر رمضان؟

** كانت الجوالة تخرج في رمضان وكان قديمًا كل الأرض والجبال والبحار مباحةً لتدريب الجوالة ومعسكرات الجوالة؛ وكانت أجمل أيام هذه المعسكرات في رمضان الكريم وكان الإخوان يصومون اليوم ويتقربون إلى الله في ليله؛ وكان رمضان في صيامه طيب جميل وأيامه لا تنسى وكان لنا نشاطات كثيرة جدًّا في رمضان سواء كنت في المحلة أو بعدما ذهبت إلى إمبابة وعشت داخل الجوالة في إمبابة وكان لها تدريباتها ولها أوضاعها وكنا نعيش أيامًا نورانيةً نتذوق فيها حلاوة الإيمان وحلاوة الصيام وحلاوة الجد.

مع المرشدين

* باعتبارك ممن عاصرت المرشدين فما أبرز ما كان يميزهم؟

** الأستاذ البنا مثلاً عندما تخرج في دار العلوم كان دائمًا مشغولاً بهمِّ هذه الأمة وكان يستجير بعلماء ومسئولي الأزهر ويشكو لهم من الإعلام الاستعماري الإلحادي الذي يفرق ولا يجمع؛ وكان يشكو للشيخ مصطفى المراغي من الهجمات الإعلامية ويقول للشيخ المراغي: (أين أنتم ومسئوليتكم أمام الله؟، أنتم تملكون الرد على هذا الإعلام؛ ولو قمتم وأديتم واجبكم وأرضيتم ربكم لن يكون لهذا الإعلام قوة أو أثر في نفوس هذه الأمة)؛ وكان الشيخ المراغي يحب الأستاذ البنا وكان دائمًا حريصًا على أن يلقاه؛ والشيخ المراغي محبوب ولا سيما من الملك فؤاد الذي جعله مربيًا للملك فاروق؛ ففي عهد فؤاد وفي عهد فاروق كانت له مكانة طيبة وكان مسموعَ الكلمة؛ وكان أول من تعلق بالأستاذ البنا لحبه وخوفه من ضياع هذه الأمة؛ كان دائمًا كثير الشكوى إليه وكان الشيخ المراغي يقول للأستاذ البنا من حماسته وفهمه لعلل هذه الأمة: "والله إنك لتملك علاج هذه الأمة"، رحمة الله عليهم جميعًا.


* وماذا عن المستشار حسن الهضيبي، وهل هناك ذكريات جمعتكم داخل المعتقل أو خارجه؟

 الصورة غير متاحة

المستشار حسن الهضيبي

** الأستاذ الهضيبي كان في جماعة جهادية كما قال هو وكان اسمها (اليد السوداء)، وكان مرهف الإحساس بالمصائب التي ابتليت بها هذه الأمة وكان في أجازة القضاة يجلس بين أبناء قريته ويحدثهم عما ينفع لهذه الأمة داخليًّا وخارجيًّا؛ وذات مرة أراد أن يتكلم ووجد الشباب يملكون هذه المعلومات أو بدأ يظهر عليهم بعض المعلومات فسأل كبيرهم: (ما لهذا الشباب اليوم لديه فكرة)، قال: لقد افتتح الإخوان المسلمين في بلدنا شعبة؛ فقال: والله إنهم لسبقونا؛ وذهب الأستاذ الهضيبي إلى المركز العام فسمع الأستاذ البنا يلقي الكلمة كما كانت تسمى حينئذ (حديث الثلاثاء)، أو (عاطفة الثلاثاء) فعندما سمع الأستاذ الهضيبي والكل صامت كأن على رؤوسهم الطير؛ وصف هذا الوصف وقال: (لقد استولى الإمام البنا على قلوب سامعيه وأصبحت القلوب بين راحتيه يقلبهما كيف يشاء)، ويقول الأستاذ الهضيبي (وقلبي معهم) وعندما انتهى الحفل كل منهم سحب قلبه وانصرف إلا قلبي؛ وعندما ذهبت إلى الأستاذ البنا تعرفت عليه وأخذت البيعة وأعددت نفسي جنديًّا لهذه الجماعة.
أما داخل المعتقل فقد كنت معه في أول حادث ورأيته وهو عملاق وكان هو القائد للجميع وكان في كل الإجراءات دائمًا هو السباق؛ ودائمًا كان يقول: (لا تضيقوا بدين الله.. لا تضيقوا بإرادة الله)، إن الله معنا وإن الله لن يخذلنا أبدًا، وكان حمزة البسيوني يسأله ويقول: (أنت الذي تسببت في مجيء هؤلاء الناس؛ فكان يرد عليه ويقول: لو أن فردًا من كتيبتك وقع في خطأ في الخارج يمسكوك أنت ويحبسوك أنت ويعتدوا عليك؟ فكان الرجل ينخزي وينكسف؛ وفي كل مرة كان يقول له لقد قلت.. لقد فعلت؛ كان يرد عليه ويقول: (لم آمر أحدًا أن يعتدي على أحد)، وكان هو القائد والمعلم والمربي في أشد المواقف للإخوان.


* والأستاذ مصطفى مشهور؟
 
 الصورة غير متاحة

الأستاذ مصطفى مشهور

** المرشد الأستاذ مصطفى مشهور كان له تاريخ عظيم في تاريخ هذه الجماعة وكنت قريبًا منه ولي معه مواقف متعددة حتى عندما كنت أذهب إلى الإخوان الشباب يرسلون معي السلام والتحيات إلى الأستاذ مصطفى مشهور وعندما قابلوه،  قالوا له: (يا فضيلة الأستاذ لقد أرسلنا إليك تحياتنا مع محمد نجيب)؛ فكان يقول لهم لم يقل لي أبدًا فسألني؟ فقلت له يا فضيلة المرشد أنا لا أريد أن أشغلك فكان يرد على ويقول: (تسعدني.. تسعدني ولا تشغلني).


وكان له موقف لن أنساه أبدًا.. كان الأخ علي صديق مريضًا في المستشفى فقال علي صديق لي يا نجيب: (أنا أريد أن يزورني الإخوان)، فذهبت وأخبرت الأستاذ إبراهيم شرف، وكان وقتها سكرتير المرشد؛ فأدخلني مكتب الإرشاد، وقال: (يا جماعة أسمعوا كلمة الأخ محمد نجيب)، فقلت لهم إن الأخ علي صديق المجاهد العظيم مريض في قصر العيني ويريد رؤية الإخوان؛ فعندما ذهبت في اليوم الثاني لم أجدهم ذهبوا؛ وعندما سألت الأخ علي صديق عنهم قال: (لم يأتوا لي ثم بكى)، ولم أحب أن أقول له أني أخبرتهم، وأخبرته بأنني أخبرت الأخ فتحي البوص ليخبرهم فقال لي: (ما قلتش ليهم أنت ليه.. أروح أنا أقل لهم يعني أنا عاوزك إنت اللي تروح)؛ فذهبت وأخبرت الحاج مصطفى فحزن وغضب وبكى؛ وذهب إلى مكتب الإرشاد وإلى فضيلة المرشد محمد حامد أبو النصر، وقال "تعالوا بسرعة نعود هذا البطل العظيم الذي أنفق كل حياته بيننا"، فكان رجلاً جاهزًا وكان لديه العدة دائمًا وله أدوار وله حياته كلها في الداخل والخارج وفي النظام وفي السجون؛ فكان علامةً مميزةً.. صابرًا.. وتنظر في عينيه تجد ما تحتاج.

محمود عبد اللطيف

* اقترن اسمك بالشهيد محمود عبد اللطيف المتهم بمحاولة اغتيال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فما السبب في ذلك؟

** الأخ محمود عبد اللطيف كان عضوًا في أسرتي؛ وكنا معًا.. حياتنا كلها كانت مع بعض؛ وقد تطوعنا معًا في حرب فلسطين؛ ولكن كنت أصغر منه بكثير؛ كُنَا في أواخر عام 1947 فكان عمري حينها 17 سنةً وكان عمره 23 سنة؛ فقبلوه ورجعت أنا؛ وأنا عائد قال لي: (وصيهم في البيت وخلي بالك دائمًا منهم واسأل عليهم وقل لهم إني الحمد لله اتقبلت)؛ فذهبت للبيت وناديت على زوجته وقلت لها: (محمد قبلوه)، فسألتني (من أنت)؟ قلت لها: (أنا نجيب)، قالت لي: "يا نجيب معقول لو دا عندكم أنتم كنت تسيب عيالك وتروح تجاهد في سبيل الله"، قلت لها: لا حتى لا أضايقها، ولم تكن تعرف بعد أنني من الإخوان.

 

لكن هو حارب في فلسطين وكان له دور كبير جدًّا ووقع في الأسر وبعد الإفراج عنه عاد إلى وضعه وعاد إلى جنديته وشعبته وعشنا معًا حياةً طويلةً؛ وله مواقف لا تنتهي وأذكر أنه تغيب يومًا عن لقاء الأسرة وكان عهدنا به أنه لا يغيب أبدًا فقلت للإخوة: "تلاقوا والده مريض وذهب به للدكتور"، فذهبنا له للاطمئنان عليه ووجدناه يستبدل ملابسه وقال لنا: (أنا لسه جاي من عند الدكتور كنت مع الوالد وهو الحمد لله كويس)، وهو يعلم أننا نذهب للأخ الغائب حتي نطمئن عليه (يعني هيكون فيها شاي.. بسكوته.. بقسماطة.. حاجة من الحاجات الخفيفة بتاعة زمان)؛ وكان أهله لسه خابزين في البيت؛ فقتلت له: (الحمد لله إننا اطمئنانا عليك وطمئنانا على العيش والفرن والحاجات اللي رائحتها حلوة دي)، فقال لنا: (طيب اقعدوا)، ودخل وأحضر لكل منا: (نصف رغيف) وكانت تسمى حينئذٍ (بالشقة)، وكانت ضخمةً ثم ذهب إلى داخل المنزل وظل فترة ثم رجع إلينا ومعه (سلطانية عسل)، ووضعه أمامنا؛ وقال: (ما تاكلوا)، قلنا له: (إحنا أكلنا العيش (حاف) من ساعتها؛ كنت قلت إنك هتيجب عسل) فقال لي: (طيب ولا تزعلوا؛ هجيب لكل واحد كمان شقة)، ولكنه هذه المرة أخذ العسل معاه.


وقد عشت معه وكنت معه في فصيلته وكنت معه قبل الحادث وبعده؛ وله مواقف لا تنتهي؛ وكما قلت: إنه لم يذهب إلى المنشية وأُمسك به في القطار في محطة الإسكندرية؛ وهو رجل عظيم وأفضل ما أعجبني جدًّا في آخرته؛ عندما سألت زوجته عن آخر مرة زاروه فيها قبل استشهاده، فقالت: ذهبت أنا وأخته وأمه وأولاده وعندما رأى حنفي- أصغر الأبناء-؛ أباه وكان قد مضى على اعتقاله شهرين، وصدر في حقه حكم الإعدام ارتمى في أحضانه، وأخذ يقبله ومحمود يضحك مع ابنه؛ فسألتها: ألم يتأثر أبدًا؟ فقالت لي زوجته: (لم يتأثر أبدًا)؛ وعندما رأى أمه تبكي غضب منها وقال لها: (يا أمي أنا شهيد؛ لك ِأن تفخري أني مظلوم وشهيد لله رب العالمين؛ لك أن تفرحي وكل يوم يموت الناس ولكن الحمد لله أنني سأموت شهيدًا؛ أموت حيًّا وألقى الله)، وكان موقفًا عظيمًا، وقال لهم: (إن شاء الله سيحفظكم الله من أجلي).

رمضان في المعتقل

* بمناسبة أننا في شهر رمضان وأنك "رد معتقلات" فما هي أبرز المواقف التي تتذكرها لشهر رمضان داخل المعتقل؟

** كنت أشعر أنا والإخوان بأن هناك مددًا إلهيًّا وراحةً نفسيةً، وكانت هناك روائح رمضان التي كُنَا نراها قديمًا ونحن أطفال بين أهلينا وكأنا صرنا صغارًا؛ وأصبحنا في أشد الحاجة إليها؛ وكنا دائمًا نتبادل النكت والضحكات؛ ولكنا كنا نستعين بالله وكنا نشعر بأننا بين يدي الله فسعادتنا ونحن بين يدي الله في رمضان وفي غير رمضان كان أمرًا عظيمًا.

 

وأذكر أخًا لنا من قنا وهو من الأشراف وكان أستاذًا في الأزهر؛ ووقتها كانوا يقفون معنا ونحن في عز الحر، وأثناء الصيام كنوع من الحرب النفسية؛ وهذا الأخ كان ينتظر دوره في الدخول للتحقيق وأثناء الانتظار سمع أنَات وصراخ الأخ الذي بالداخل وهو يقول (آآآآآآآآآه) بطريقة طويلة جدًّا، لأنهم كانوا يضعون السيجارة على جسده فكانت تؤلمه، فظن الأخ أنهم يشقون بطنه أو يقطعوه، لأن ضربة العصا كانت معروفة والتألم منها لم يكن لدرجة تألم هذا الأخ الذي بالداخل؛ فأعد الأخ نفسه أنه سيموت أول ما يدخل؛ فلما دخل للتحقيق ضحك؛ فضربه الضابط بالقلم وقال له: (بتضحك على إيه يا ابن الكلب)، فأجابه: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)، وهذا يوم لا أنساه ولا ينساه الإخوان.


* هل هناك موقف لا تنساه وأنت داخل المعتقل؟

** قبل نكسة 67 كانت الظروف داخل السجون والمعتقلات صعبةً جدًّا، وكان أفضل وجبة لما يصرفوا لنا ثلاثة أرغفة وطبق الفول سواء في الفطار أو السحور؛ ولكن بعد النكسة كانت الأوضاع أفضل حالاً حيث فتحوا لنا الزنازين وأصبحنا نعجن العجين وننظف الدقيق ونطهو الطعام وكان كل يوم في شهر رمضان عيدًا لنا وكنا سعداء جدًّا وندعو الله ونقول: (يا رب ما نطلع إفراج ونكمل رمضان هنا ونفطر مع بعض)، فقد كان الجو طيبًا جدًّا.


* وكيف كنتم تقضون يومكم في رمضان وأنتم داخل المعتقل؟

** كانت فقرات اليوم كثيرةً؛ وأفضل حاجة أذكرها ضمن البرامج؛ هو إن الإذاعية ليلى رستم كانت تقدم برنامجَ (نجمك المفضل)، فقمت بإعداد برنامج مماثل له في طرة؛ واخترت كل أخ وسألته عن ظروفه وحياته وإيه الفرق بين وجودك وسط إخوانك وبعدك عن أولادك؛ حتى وصلت إلى أخ من الإخوان فطلب مني الإخوة ألا أستضيفه وأسأله؛ وقالوا لي: (لو سألته حنروح في داهية لأننا كنا في المعتقل وهم يتصنتون علينا)، لكنى استضفته وسألته وقلت له: حضرتك بتعمل في النقل العام.. إيه ظروف النقل العام وما مشكلة النقل العام؟ فقال: (والله النقل العام مشكلته قطع الغيار)؛ قلت له: (كيف حللتم هذه المشكلة)؟ وكان عبد الحيكم عامر هو من يتولى هيئة النقل العام؛ فأجابني الأخ قائلاً: (الحمد لله عملنا مصنع قطع الغيار)، وبدأت العربات تعمل وبدأ كل أمر يسير كما كان؛ وكنا سعداء جدًّا؛ لولا إن المصنع تعطل؛ قلت له مصنع إيه؛ قال لي: (مصنع قطع الغيار) فضحك الجميع.

أحمد رشدي والشاوي

* تلعب الروحانيات الرمضانية دورًا في تجاوز المحنة... فهل شعرت بذلك؟

** هذا الأمر شعرت به ونحن في معتقل أبو زعبل؛ كان الضابط أحمد رشدى- اللواء وزير الداخلية فيما بعد- إنسانًا قاسيًا منزوعًا من قلبه الرحمة؛ وكان جمال عبد الناصر تكلم في روسيا وأراد أن يعذب الإخوان حتى يرضي السوفيت الشيوعيين، ولكننا بحمد الله رغم كل ما كان يحدث لنا كُنَا سعداء وكُنَا نؤثر بعضنا على بعض وكان الواحد منا ينظر إلى إخوانه فيسعد؛ ولا أنسى أبدًا يوم أن دخلت السجن الحربي وعلمت أنه يوجد به أربعة الآف أخ، فأصبحت في قمة السعادة؛ وتعجب الإخوان من فرحي وسعادتي! فقلت لهم: بالطبع أنا فرح لأنني كنت أتمنى أن أرى جميع الإخوان؛ وقلت لهم: (أنا الآن بين الإخوان كلهم ومستعد أن أعيش طوال عمري بينهم)؛ وعشت بين الإخوان في السجن الحربي وفي القلعة وفي طرة وأبو زعبل وفي سجن مصر؛ وكل ما أعتز به هو هذه الأيام التي قضيتها مع الإخوان.


* ما الموقف الذي لا تنساه في كل هذه السجون؟

** عندما كان الدكتور توفيق الشاوي في السجن الحربي يقوم بغسل الأطباق وكان يعذب تعذيبًا خاصًا بسبب كتابه الذي كتبه قبل اعتقاله وهو (حقوقك إذا اعتقلت في مصر)، فكانوا يعذبونه بسبب هذا الكتاب بطريقة خاصة فمَر عليه الأخ الشهيد هنداوي دوير وقال: (صبرًا آل ياسر إن موعدنا جميعًا الجنة).