(يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير . ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) (آل عمران).

--------------

من تراث الشهيد سيد قطب:

وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة، والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام، ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات، وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أُحد مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم, واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة - نتيجة لخروجهم - ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة. ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات، ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه.

إن قول الكافرين: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها, للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها: سراؤها وضراؤها. إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله متعرف إلى مشيئة الله, مطمئن إلى قدر الله. إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له, وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع, ولا يتلقى السراء بالزهو, ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك، ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا, أو ليستجلب كذا, بعد وقوع الأمر وانتهائه! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة, كله قبل الإقدام والحركة; فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير - في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه - فكل ما يقع من النتائج, فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم، موقنًا أنه وقع وفقًا لقدر الله وتدبيره وحكمته، وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع، ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله!.. توازن بين العمل والتسليم, وبين الإيجابية والتوكل, يستقيم عليه الخطو، ويستريح عليه الضمير.. فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة فهو أبدًا مستطار, أبدا في قلق! أبدًا في "لو" و "لولا" و"يا ليت" و"وا أسفاه"!

والله - في تربيته للجماعة المسلمة وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها - يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا. أولئك الذين تصيبهم الحسرات, كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق, أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا).

يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون, ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري. فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية, بسبب انقطاعهم عن الله, وعن قدره الجاري في الحياة.

(ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم)..

فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا, أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا.. إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل, يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل, ونداء المضجع, وقدر الله, وسنته في الموت والحياة, ما تحسروا، ولتلقوا الابتلاء صابرين, ولفاءوا إلى الله راضين: (والله يحيي ويميت)..

فبيده إعطاء الحياة, وبيده استرداد ما أعطى, في الموعد المضروب والأجل المرسوم, سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم, أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة . وعنده الجزاء, وعنده العروض, عن خبرة وعن علم وعن بصر: (والله بما تعملون بصير)..

على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل; فهذه ليست نهاية المطاف. وعلى أن الحياة في الأرض ليست خيرًا ما يمنحه الله للناس من عطاء. فهناك قيم أخرى, واعتبارات أرقى في ميزان الله: (ولئن قتلتم - في سبيل الله - أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون)..

فالموت أو القتل في سبيل الله - بهذا القيد, وبهذا الاعتبار - خير من الحياة, وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها الصغار: من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع . خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته, وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون. وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين.. إنه لا يكلهم - في هذا المقام - إلى أمجاد شخصية, ولا إلى اعتبارات بشرية. إنما يكلهم إلى ما عند الله, ويعلق قلوبهم برحمة الله. وهي خير مما يجمع الناس على الإطلاق, وخير مما تتعلق به القلوب من أعراض..

وكلهم مرجوعون إلى الله, محشورون إليه على كل حال. ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض, أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان. فما لهم مرجع سوى هذا المرجع; وما لهم مصير سوى هذا المصير.. والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه والاهتمام.. أما النهاية فواحدة: موت أو قتل في الموعد المحتوم, والأجل المقسوم، ورجعة إلى الله وحشر في يوم الجمع والحشر.. ومغفرة من الله ورحمة, أو غضب من الله وعذاب.. فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس. وهو ميت على كل حال!

بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة, وحقيقة قدر الله. وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر، وإلى ما وراء القدر من حكمة, وما وراء الابتلاء من جزاء.. وبذلك تنتهي هذه الجولة في صميم أحداث المعركة, وفيما صاحبها من ملابسات..