الورع من أخص خصائص الكبار الذين تركوا جُلَّ الحلال مخافة الوقوع في الحرام، وآثروا الحرمان والجوع على أن يشبعوا من شيء مشكوك في حكمه.

الكبار تركوا كل ما لا يعنيهم من القول خشية أن ينطقوا بمحرم،  ومن النظر خشية أن تقع أعينهم على ما يُغضب الله، ومن الاستماع خوفًا من تلوث آذانهم بما حرم الله.

فالكبار فهموا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (صحيح، أورده الألباني في صحيح الجامع عن أبي هريرة: ح رقم 5911) فهمًا حفظ لهم دينهم، ونالوا به الدرجات العالية.

لماذا كان الورع من أخلاق الكبار؟

لأن الورع يعني الحرمان من بعض الحلال تجنبًا للوقوع في الحرام، وهذا لا يكون إلا من الكبار أصحاب العزائم الفتية.

ولأن الورع يعني الرضا بما قسم الله، وعدم التطلع إلى ما في أيدي الناس.

ولأن الورع يعني عدم الترخص، وهو ما يعني التشديد على النفس ومخالفتها فيما تهواه وتسعى إليه.

وتحسبونه هينًا

صغار النفوس رضوا لأنفسهم الدَّنيَّة في كل شيء؛ فعزائمهم خائرة، ومقاومتهم لرغبات أنفسهم واهية، يستهينون بما يتلفظون به من القول، ولا يُتقنون ما يقومون به من أعمال، لا يتورعون عن أكل مال اليتيم، ولا يكترثون بأكلهم حقوقَ الآخرين.

أما الكبار فلهم مع أنفسهم وقفات، فلا يُقدمون على قول أو فعل إلا إذا كان موافقاً للشرع، وقدوتهم في ذلك النبي- صلى الله عليه وسلم-: يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بتمرة في الطريق فقال: "لولا أخشى أنها من الصدقة لأكلتها" (صحيح، أورده الألباني في صحيح الجامع عن أنس: ح رقم 5309).

ولك أن تقارن أخي القارئ بين هذا الموقف العظيم ومواقف كثيرة تحدث أمام ناظريك، وهي أكثر من أن تُحصى، رزقنا الله وإياك الورع والخوف من الله.

خير الدين

الكبار ينالون بالورع من الأجر والمثوبة ما لا ينالونه من غيره؛ ذلك أن الورع مِلاك الدين، فما الفائدة من التزام وتدين لا يحملان صاحبهما على ترك ما نهى الله عنه، ولا يجعلانه يتحرَّى الحلال والحرام قبل الإقدام عليه، جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " فضل العلم أحب إليَّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع" (صحيح، أورده الألباني في صحيح الجامع عن حذيفة: ح رقم 4214).

معرفة الله

ويكمن السر عند الكبار في تخلقهم بهذا الخلق الرفيع أنهم أَعرفُ الناس بربهم، هذه المعرفة التي جعلتهم يستحيون من الله أن يراهم على أمرٍ يُغضبه، على عكس صغار النفوس الذين يدفعهم جهلهم بالله إلى ارتكاب الكبائر وهم لا يُبالون، وصدق الله حين يقول ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (الزمر: 67).

فمن عرف الله قدَره حق قَدْرِه، وعظَّم شعائره، وعظَّم حرماته، فيترك كل ما فيه مظنة غضب الله، حتى إنه ليترك كثيرًا من المباحات خشية التباسها بحرام؛ فالورع الحقيقي كما وصفه يونس بن عبيد "الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل طرفة عين" (تهذيب مدارج السالكين: ص 290)، وكما قال الخطابي: "كُلُّ مَا شَكَكْت فِيهِ فَالْوَرَعُ اِجْتِنَابُه" (فتح الباري لابن حجر، ج 6، ص 354).

الورع والقلب

إن الميزان الحقيقي الذي يبين الحلال والحرام هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن قلب المؤمن الذي تربَّى على هذا الميزان باستطاعته أن يُرجِّح ما اشتبه على الناس إلى أي الجهتين يميل؛ إلى الحرام أم إلى الحرام، كما أن قلب المؤمن دائمًا إلى ما هو حلال، حتى وإن غاب عنه النص، فيمضي في أمره هادئ النفس، مطمئن القلب، مرتاح الضمير، أما ما دون ذلك من الأمور المحرَّمة فيبادر قلب المؤمن برفضها ابتداءً، ولهذا ترى المؤمنين لا يقربون ما أحدث قلبهم له ريبة، مُتبعين في ذلك توجيه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "ما أنكره قلبك فدعه" (صحيح، أورده الألباني في صحيح الجامع عن بن عساكر: ح رقم 5564).

وأيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون" (صحيح، أورده الألباني في صحيح الجامع عن أبي ثعلبة: ح رقم 2881).

منزلة المتقين

والكبار كعادتهم دائمًا يسعون إلى أن يكونوا في صدارة المتقين، ولأن الورع إحدى الطرق الموصلة إلى هذه المنزلة العظيمة فإنهم يتورَّعون عن أن يرتكبوا شيئًا فيه شبهة؛ خوفًا من أن ينتقص من أجورهم شيئًا، جاء عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به البأس" (رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وضعَّفه الألباني في جامع الترمذي برقم 2451).

يحفظ الدين

والكبار يحفظون دينهم بتخلقهم بهذا الخلق الجَمّ؛ فهم يتركون كل ما فيه شبهة حفاظًا على دينهم سليمًا نقيًّا، جاء في الحديث: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" (صحيح، أورده الألباني في صحيح الجامع: ح رقم 3193).

لسان الكبار

الورع عند الكبار أشد ما يكون فيما يخص اللسان، يقول أبو بكر الصوفي: سمعت الفضيل بن عياض يقول: "الورع في اللسان"، ويقول الفضيل: "كان بعض أصحابنا نحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة" (الورع لابن أبي الدنيا)، وما ذلك إلا لقلة كلامهم، وحرصهم على ألا تزل ألسنتهم.

والورع عند الكبار يجعلهم على حذر شديد من اللسان أن يخوض فيما لا يعنيه، فتنطق أعضاؤهم مخاطبة اللسان ألا يُصيب حرمة، وألا ينطق بمعصية، جاء في الحديث: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا" (حسن، حسَّنه الألباني في صحيح الجامع: ح رقم 351).

وإليك هذا الحوار العظيم، والذي إن دل على شيء فإنما يدل على أن الكبار يتمتعون بيقظة تامة، قد تمكَّن الورع من نفوسهم فجعل سدًّا منيعًا حال بينهم وبين الكلام الذي قد يؤاخذون عليه.

يُروى أن عمر بن الخطاب اطلع على أبي بكر- رحمهما الله- وهو يمد لسانه، فقال: "ما تصنع يا خليفة رسول الله؟" قال: "هذا أوردني الموارد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء من الجسد إلا وهو يشكو ذرب اللسان" (صحيح، أورده الألباني في صحيح الجامع عن أبي بكر: ح رقم 5396).

يعصم الإنسان

والكبار بورعهم يحفظهم الله تعالى من الخوض بألسنتهم فيما يخص الآخرين، أو إلحاق الأذى بغيرهم؛ فهم يتورعون عن أن يتكلموا- مجرد الكلام- بعلم أو بغير علم؛ فالصمت والورع في حادث الإفك كان سببًا في عصمة السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها من الخوض فيما خاض فيه بعض الناس، وقد كان يسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة، جاء في صحيح البخاري: "وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي فَقَالَ: "يَا زَيْنَبُ.. مَا عَلِمْتِ مَا رَأَيْتِ؟!"، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ.. أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلا خَيْرًا، قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ" (صحيح البخاري: ح رقم 2467).

فأين نحن اليوم من الذين يُطلقون لأنفسهم العنان، فلا يرعَون حرمةً لأحد، فينال الآخرين من سهام ألسنتهم ما يؤرق نفوسهم، ويُقلق مضجعهم، بكل ترخص وقلة ورع.

عيون الكبار

الكبار يحفظون أعينهم من أن تقع على ما حرم الله، ويبدءون ذلك بمنع أنفسهم عن فضول النظرة، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب: "يا علي.. لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة" (حسن، أورده الألباني في صحيح الجامع عن أبي بريدة: ح رقم 7953).

وهم يعتبرون النظرة سهمًا قاتلاً يمكن أن يقتل صاحبه، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ" (المعجم الكبير للطبراني: ح رقم 10211)؛ لذا فهم يصرفون النظرةَ ولا يتمادون فيها، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بن عَمْرِو بن جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفُجَاءَةِ؟ "فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي" (المعجم الكبير للطبراني: ح رقم 2351).

الكبار يحترمون خصوصيات الآخرين، فيتورعون عن استراق النظرة داخل بيوتهم، فيقطعون النظرة المرسلة، ويحذَرُون النظرات الفاحصة المنقبة الباحثة عن العيوب، جاء في الحديث: "مَن اطلع في بيت قوم بغير إذن ففقئوا عينه فلا ديةَ له ولا قصاص" (صحيح، أورده الألباني في صحيح الجامع عن أبي هريرة: ح رقم 6036).

ومن ورع الكبار في النظر أنهم يستحضرون مراقبة الله تعالى لهم في كل لحظة، يقول تعالى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)﴾ (الشعراء)، فيمنعهم يقين مراقبة الله لهم من أن يراهم وقد وقعت عيونهم على ما يُغضبه، فيخشون حتى نظرة الفجأة ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ (غافر: 19)

سمع الكبار

صغار النفوس لا يتورعون عن سماع الغيبة والنميمة، والتحدث في أعراض الناس وعوراتهم دون تحرج ولا ورع، أما الكبار فهم يخافون العاقبة، ويخشون الحساب، وإذا حدث وسمعوا كلمة طائشة من هنا أو هناك فإنهم سرعان ما يندمون ويُسارعون بالاستغفار، ولِمَ لا وقد حفظوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة"؟! (صحيح، أورده الألباني في صحيح الجامع عن ابن عباس :ح رقم 2440).

صغار النفوس هم الذين يُسارعون إلى ذكر العيوب، وفضح البيوت، وكشف المستور من خصوصيات الآخرين، أما الكبار فهم الذين يمتنعون عن الحديث في عيوب الآخرين، مقتدين في ذلك بقول بن عباس "إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك" (ذم الغيبة والنميمة لابن أبي الدنيا).

صغار النفوس يبحثون عن الرُّخَص ومواطن الاختلاف، فيسمحون لأنفسهم بسماع المزامير، وآلات الطرب والموسيقى، أما الكبار فيتورعون أن يزجوا بأسماعهم في مثل هذه الأشياء حتى وإن كان مختلفًا في حكمها؛ طاعةً لله، وحرصًا منهم على عدم الاقتراب من مواطن غضب الله، وهم حينما يُنزِّهون سماعهم عن مثل هذه الأشياء يترقبون الأجر والمثوبة من الله، عن مالك بن أنس، عن محمد بن المنكدر، قال: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن مجالس اللهو، ومزامير الشيطان؟! أسكنوهم بياض المسك، ثم تقول الملائكة: أسمعوهم تمجيدي وتحميدي" (الورع لابن أبي الدنيا).

يكفيهم هذا

الوَرِعون الذين عظَّموا حرمات الله، وابتعدوا عن المشتبه فيه من القول والفعل، يكفيهم من الأجر والثواب ما جاء في الحديث القدسي "وَأَمَّا الْوَرِعُونَ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةَ لَمْ يَبْقَ عَبْدٌ إِلا نَاقَشْتُهُ الْحِسَابَ وَنَقَشْتُهُ إِلا الْوَرِعِينَ، فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ وَأُجِلُّهُمْ وَأُكْرِمُهُمْ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (المعجم الكبير للطبراني: ح رقم 12482).

أَعْبَدُ الناس

إن المؤمن يجب أن يسابق إلى مرضاة الله تعالى، فيكون من المقربين السابقين، ولقد عدَّد النبي- صلى الله عليه وسلم- بعض الصفات التي إن فعلها العبد تقدَّم على غيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة واصيًا: "كن ورعًا تكن أعبدَ الناس، وكن قَنِعًا تكن أشكرَ الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلمًا، وأقل الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب" (صحيح، أورده الألباني في صحيح الجامع عن أبي هريرة: ح رقم 4580).

وأخيرًا.. فالكبار يذكرون قول أنس رضي الله عنه، فيزداد حرصهم، ويقوى عزمهم، ويستمر ورعهم: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ الْمُوبِقَاتِ"، ثم يذكرون حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكره الشعبي؛ حيث قال: "بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما ترك عبدٌ لله أمرًا لا يتركه إلا لله، إلا عوضه الله منه ما هو خيرٌ له منه، في دينه ودنياه".