إن المسجد في حياة الدعوات يمثل المنطلق الأول الذي لا يمكن تجاوزه، أو الاستغناء عنه، إلا إذا أمكن للإنسان أن يستغني عن عقله، أو أن ينطلق بعيدًا عن روحه ونفسه.

وهذا يفسر لنا سر عناية الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد في أول أيام وصوله إلى المدينة ليقينه صلى الله عليه وسلم بأن المنطلق الأول الذي تشحن فيه النفوس وتغسل فيه العقول، وتملأ من فيضه القلوب وتنهل من معينه الأرواح، إنما هو المسجد؛ حيث يذكر اسم الله ويُتلى كتابه، وحيث تُربَط القلوب بخالقها وتتعلق بفاطرها، وتستمد رؤيتها لتنفيذ برنامج الحياة من نور الله سبحانه وتعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) (المائدة).

وإذا كانت الأمم تنبني على سواعد الرجال، فإن الرجولة لا بد أن تنبني في محاضن الوحي، ومصانع الرجال، وهي المساجد: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37))(النور).

ومن يتأمل في الآية الكريمة يلاحظ أن الفئة التي اختارها الله سبحانه وتعالى لرفع بيوت الله وتشريفها بدوام ذكر الله فيها فئة الرجال الذين واصلوا التسبيح لربهم بالغدو والآصال، مدركين أن مهمة عمارة المساجد ورفع ذكر الله، وتعليم الأمة لحق ربها هو أقدس رسالة شهدتها الأرض فلا يعدلون بها عملاً آخر أو مهمة أخرى إنهم من المسلمين (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37)).

إن النفس التي سقيت بالوحي، ومزجت بنور الآيات وجبلت على حب الخير، وشرحت صدرًا بنور الله هي وحدها القادرة على حمل أمانة الله في الأرض، وإحسان السير بها بين الناس؛ رغبة في رضا الله، وسعيًا إلى ثوابه ورضوانه.

إنها نفوس تطهرت من سلطان الشهوة، وعقول تحررت من سلطان الخرافة، وقلوب ارتفعت فوق سلطان الطغاة، وخلعت بكيانها كله لله رب العالمين: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة: من الآية 108) تطهروا من نقلة الجسد، وكدرة النفس، والميل مع الهوى واستقاموا لله رب العالمين.

ومع المسجد، وفي رحاب الله تؤدى الصلاة، والصلاة معراج روحي تأخذ بقلوب المؤمنين وأرواحهم إلى رحاب المولى سبحانه وتعالى، وهل يليق بمقام الله والإقبال عليه أن يقوم عليه أحد وهو يحمل شيئًا من القذر أو الكدر، إن الجو كله جو طهر ونقاء وصفاء، فلا بدَّ من تهيؤ للوقوف بين يدي ربه أن يستكمل أسباب الطهارة كلها، طهارة الظاهر من الثوب واليد والمكان، وطهارة الباطن من الحقد والحسد والبغضاء، وحتى لا ينسى أحد أو يتساهل فيدخل إلى المسجد بثياب قذرة، أو رائحة غير طيبة، أو بهيئة شعثة، وهي حالة لا يليق أن يدخل إنسان بها على إنسان مثله، فكيف يسمح لنفسه أن يستفتح باب الجليل سبحانه وهو بهذه الهيئة وعلى هذا الحال.

إن الحس الرقيق والذوق الشكيم والفطرة السليمة النقية تأبى أشد الإباء أن تلج إلى مقام الطهر بغير طهور؛ لكن إذا غلظ الحس، وغاب الذوق، وانتكست الفطرة، فاحتاج ابن آدم إلى تذكير وبيان فإن المولى تبارك وتعالى يذكر في نداء قاطع وبيان حاسم يقول: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (الأعراف: من الآية 31)

وإذا اجتمع للمساجد طهارة المكان بحسن الفرش وجميل الرياش وتجديد الهواء، واجتمع لروادها طهارة الظاهر ونقاء الباطن، وفاحت من روادها روائح العطر وسبق في جوانبها مشمات الطهر، وجدت للقلب نشواه، وللصدر انشراحًا، وللنفس انجذابًا إلى جمال الذات الإلهية، فتثمر العبادة ثمرتها، وتؤدي القلوب الطيبة أكلها كل حين بإذن ربها.

ولك أن تتصور حاكمًا قد تعلق قلبه بالمسجد فهو منطلق منه منجذب إليه يشعر نحو المسجد بحنين يربط به ويشده إليه، فهو دائم الخشية من ربه، شديد الحياء منه يشعر دائمًا أنه المخاطب بقوله (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (المائدة: من الآية 49)، (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)) (الصافات)، إنه في المسجد قد استمع إلى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِه" (1).

وتفتحت عينه على أدب المراقبة للخالق سبحانه وتعالى، واستوعب في المسجد قول نبيه صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنَسٍ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم "إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ" (2).

وأيضًا عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"- قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ- "وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" (3).

وامتلأ قلبه يقينًا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ" (4).

وامتزج بإحساسه قول الحق سبحانه: (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)) (المائدة).

إن قلبًا له هذا اليقين وضميرًا له هذا الحضور، ووجدانًا له تلك المراقبة العميقة، وجدير أن يلتمس سبل الهرب من تلك الأمانة التي تجعله في موضع مساءلة عن كل من استرعاه الله عليه، فهو مسئول عن الجائع حتى يشبع والعاري حتى يُستر، وعن المظلوم حتى يرفع الظلم عنه، كما أن الحاكم الذي تعلق بالمسجد فأدام الوقوف بين يدي خالقه يسأله العون والتسديد والرشاد، جدير بأن يعان في مهمته وأن يوفق في أداء رسالته، وأن ينال حب رعيته، وإن استقام أعانوه وإن اعوج قوموه فهو منهم بمنزلة الوالد من ولده.

ولك أن تتصور جنود جيش تلك حالهم وهذه سماتهم؛ معية دائمة، وانجذاب حميم وتعلق كريم بجلال المولى العظيم، كيف يكون موقفهم إذا لقوا عدو الله وعدوهم، وهم ما خرجوا إلا غيرة على مقام الخالق العظيم سبحانه أمام أناس تمردوا على خالقهم، وأنكروا نعمته، وكرهوا شريعته، وشاقّوا رسله، وعصوا أمره.

كيف لا يعدون العدة، وهم المخاطبون في المسجد بقوله سبحانه (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)) (الأنفال).

وكيف لا يقاتلون وهم يدعون من خالقهم فيقول: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)) (التوبة).

وكيف يترددون والله يستحثهم على القتال، ويشحذ همتهم ببيان جرائم المجرمين الذين اقتضى استئصالهم عن الأرض بقوله: (أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)) (التوبة).

وكيف يخافون وهم المبشرون من خالقهم سبحانه وتعالى بالنصر والتأمين إذا هم نصروا الله وقاموا في سبيله، بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)) (محمد).

وكيف لا تثبت الأقدام وهم المخاطبون بقول ربهم سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)) (الأنفال).

إن ثبات أبناء المساجد في فلسطين أمر لم يدهشنا، وانتصارهم على اليهود وإجبارهم على الانسحاب الذليل المهين لم يفاجئنا لأنهم موعودون بالنصر من جبار السموات والأرض عندما تعهد بالنصر لأوليائه بقوله: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51)) (غافر)، وبقوله سبحانه: (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ (173)) (الصافات).

إن الفئة المؤمنة التي أعلى الله قدرها، ورفع شأنها، وأوقع في قلوب الكافرين هيبتهم لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا لأنها بدأت انتفاضتها من المساجد وألقت بياناتها العسكرية من فوق المنابر، وأعلنت تعبئتها وخططها من فوق المآذن، إنهم انطلقوا إلى لقاء الأعداء، وهم واثقون من وعد ربهم القائل: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: من الآية 47)، ألم أقل لكم إن المساجد هي مصانع الرجال.

ولك أن تتصور موظفًا يخرج إلى عمله، وقد شحن بقول نبيه صلى الله عليه وسلم: "لأن يمشي أحدكم في حاجة أخيه حتى يقضيها خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرًا"، وقوله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ" (5)، وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" أكنت ترى هذا الموظف تأخر عن عمله أو تضيعًا لوقته أو تعطيلاً لمصالح الناس، أو تفننًا في إرهاقهم وإعناتهم بكثرة التسويف والمماطلة سعيًا منه إلى إلجائهم أن يدفع رشوة حتى تسهل الأمور وتقضى المصلحة.

إن القلب المعلق بالله لن يحتاج إلى قائمة من الأوامر والنواهي، وطابور من المسئولين لكي يحملوه على إتقان عمله؛ لأن وازعه الإيماني وضميره الرباني، وعمق يقينه بخالقه يحفزه على الإتقان والإحسان لا لشيء إلا لأنه يعلم أن الله يراه، وسيكافئه، أو يحاسبه على ما قدمت يداه، ويؤمن عن يقين بقول ربه سبحانه: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)) (الزلزلة).

إن المسجد في شريعة الإسلام ليس مجرد مكان للعبادة أو أداء الصلوات فإن الصلاة والعبادة تؤدي في كل زمان وفي أي مكان؛ لكن المسجد في شريعة الإسلام هو رمز التقاء السماء بالأرض واستعلاء الروح على الجسد واستمرار المدد الإلهي والشحن الرباني، حتى يظل المؤمن على مسار حياته موصولاًً بربه مرتبطًا بخالقه فلا يضل ولا يشقى.

ولك أن تتصور جامعات مصر وما تضمه كل جامعة من كليات، وقد استكملت كل جوانب المدنية الإنسانية، وقد انتصب في صدر كل كلية مسجد يتسع لأبناء تلك المؤسسة جميعًا، ويقوم على أثر هذا المسجد أعظم الأساتذة علمًا، وأكثرهم خشية وأشدهم غيرة على دين الله سبحانه وتعالى أكنت ترى حالة التفسخ الأخلاقي، والخور الروحي، والقلق النفسي، والاختلاط الماجن، والسلوك الشائن، الذي يدع الحليم حيرانًا، وهل لو فُعِّل دور المسجد، واحتل في اهتمامات المسئولين المرتبة الأولى خدمةً وتأهيلاً ورعايةً كما ينبغي أن يكون فتوقفت المحاضرات والدروس عند أداء الصلاة، أكنت ترى حالات الزواج العرفي والمخادنة المحرمة، وما ينتج من ذلك، ومن حالات الأبناء غير الشرعيين الذين ضاقت بهم أروقة المحاكم، واضطرت الدولة أن تحصي تلك الأحوال الشاذة الماضية بمحاكم أسمتها محاكم الأسرة.

أو لست معي في أن القلوب التي تتعلق بالمسجد وتنتظم في صفوف الصلاة في خشوع ووقار صادق هي قلوب تستعصي على وساوس الشيطان ومفاسد الاختلاط وإغراءات المجرمين والمجرمات ويربها سنرى كيف تهدأ الأعصاب وتستقر المشاعر، وتطهر الضمائر، وتتفرغ العقول، والقلوب لطلب العلم، وخدمة الأمة، وتوفر على أولياء الأمور ما ينفقه الأبناء على سباق المظاهر والتقليد والوحنة، ومسايرة أحدث التقاليع في الملابس وقصة الشعر ونوع المحمول؟

أو لست معي أيضًا في أن المسئولية الوطنية تستوجب على أولياء الأمور أن يحملوا الأمة على التدريب حملاً، وينفقوا في سبيل ذلك أقصى ما يستطيعون من ميزانية؛ لكي يوفروا عليها مئات الآلاف من المليارات التي تُهدَر بسبب الجهل بالدين والتحرر على المخالفات والمسارعة إلى ممارسة الإجرام بصوره المختلفة جرائم العرض، والنفس والمال، فضلاً عن جرائم السكر والمخدرات والقمار.

ولك أن تتصور مقدار ما تتحمله الدولة من نفقات بسبب هذه الجرائم التي ما كانت لتصدر عن قلب مؤمن وضمير يقظ ونفس خاشعة، ووجدان متعلق بالله مرتبط له عقب كل صلاة (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا) (الأعراف: من الآية 58)، وهل ننسى قول نبينا- صلى الله عليه وسلم- عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "..أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ" (6).

وإذا علمنا أن الإنسان في غياب رقابته لربه وضعف إيمانه بخالقه، ونسيانه ليوم الحساب، يكون هونًا للشيطان، وضحية للأهواء، وعرضة لغلبة النوازع الطينية الغليظة أدركنا أن أعظم استثمار تقوم به الدولة تجاه بنيها هو تخلقها بالأخلاق، وتربية ضميرها على الإعانة، وتعليق قلوبها بالله رب العالمين.

وعندها تجد الأمة لديها جيلاً عاملاً عالمًا متقنًا هادئًا يحسن استيعاب ما طلب منه، ويتقن أداء ما وكل إليه، ويستحضر في خشوع هادئ قول المصطفى صلى الله عليه وسلم "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّيِّ مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فَسَكَتَ الْقَوْمُ فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، قَالَ الْقَوْمُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ "أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا"، "الموطئون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون".

ونحن نعلم أن الجريمة الواحدة تشغل في مؤسسات الدولة أجهزة متعددة وتحتاج لاستيعابها ومحاصرة خطرها إلى جهود فادحة مجزعة، مثل جريمة القتل مثلاً استهدفت نفسًا فأزهقتها فاهتز لغيابه كيان أسرة وترملت زوجة وتيتم أولاد فصاروا عرضة للتشرد والضياع وترك مقتله نفوسًا جريحة ممتلئة بالحقد وشدة الثأر وضراوة الانتقام.

وعلى الجانب الآخر غيب القاتل في السجن فحرمت الدولة ثمرة جهده لو كان مواطنًا صالحًا، وبدلاً من أن يكون مشاركًا في البناء تحول إلى معول هدم فشغل أجهزة الشرطة، وشغل أجهزة القضاء وشغل المستشفيات وإدارة السجون وما أنفق على هذه الدوائر جميعًا.

وهذه حالة لجريمة واحدة فكيف إذا انفلتت الأخلاق، وقل الدين، وانتشرت أسباب الانحراف، وصارت تلك الجرائم بالملايين، كيف تكون طبيعة الحياة، وأنى لها أن تستقيم إن هذا هو الضنك الذي حذرنا الله منه بقوله: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)) (طه).

-------------

(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة (4826) والبيهقي كتاب السير (18370).

(2) أخرجه الترمذي في السنن كتاب الجهاد (1807).

(3) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة (893) أطرافه 2409، 2554، 2558، 2751، 5188، 200، 7138- تحفة 6989.

(4) أخرجه البخاري في كتاب الأذان (660) أطرافه 1423، 6479، 6806- تحفة 12264.

(5) رواه ابن ماجه في المقدمة (243).

(6) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان (52) طرفه 2051- تحفة 11624, ومسلم في كتاب المساقاة.