وقيل لبعض الأدباء‏:‏ كيف حفظك للسر قال‏:‏ أنا أقبره‏.‏

وقد قيل‏:‏ صدور الأحرار قبور الأسرار‏.‏

وقيل‏:‏ إن قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل في قلبه أي لا يستطيع الأحمق إخفاء ما في نفسه فيبديه من حيث لا يدري به‏.‏

فمن هذا يجب مقاطعة الحمقى والتوقي عن صحبتهم بل عن مشاهدتهم‏.‏

وقد قيل لآخر‏:‏ كيف تحفظ السر قال‏:‏ أجحد المخبر وأحلف للمستخبر‏.‏

وقال آخر‏:‏ استره وأستر أني أستره وعبر عنه ابن المعتز فقال‏:‏ ومستودعي سراً تبوأت كتمه فأودعته صدري فصار له قبرا وقال آخر وأراد الزيادة عليه‏:‏ وما السر في صدري كثاو بقبره لأني أرى المقبور ينتظر النشرا ولكنني أنساه حتى كأنني بما كان منه لم أحط ساعة خبرا ولو جاز كتم السر بيني وبينه عن السر والأحشاء لم تعلم السرا وأفشى بعضهم سراً له إلى أخيه ثم قال له‏:‏ حفظت فقال‏:‏ بل نسيت‏.‏

وكان أبو سعيد الثوري يقول‏:‏ إذا أردت أن تؤاخي رجلاً فأغضبه ثم دس عليه من يسأله عنك وعن أسرارك فإن قال خيراً وكتم سرك فاصحبه‏.‏

وقيل لأبي يزيد‏:‏ من تصحب من الناس قال‏:‏ من يعلم منك ما يعلم الله ثم يستر عليك كما يستره الله‏.‏

وقال ذو النون‏:‏ لا خير في صحبة من لا يحب أن يراك إلا معصوماً ومن أفشى السر عند الغضب فهو اللئيم لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة كلها‏.‏

وقد قال بعض الحكماء‏:‏ لا تصحب من يتغير عليك عند أربع‏:‏ عند غضبه ورضاه وعند طمعه وهواه‏.‏

بل ينبغي أن يكون صدق الأخوة ثابتاً على اختلاف هذه الأحوال ولذلك قيل‏:‏ وترى الكريم إذا تصرم وصله يخفي القبيح ويظهر الإحسانا وترى اللئيم إذا تقضى وصله يخفي الجميل ويظهر البهتانا وقال العباس لابنه عبد الله‏:‏ إني أرى هذا الرجل‏.‏

يعني عمر رضي الله عنه‏.‏

يقدمك على الأشياخ فاحفظ عني خمساً‏:‏ لا تفشين له سراً ولا تغتابن عنده أحداً ولا تجرين عليه كذباً ولا تعصين له أمراً ولا يطلعن منك على خيانة فقال الشعبي‏:‏ كل كلمة من هذه الخمس خير من ألف‏.‏

ومن ذلك السكوت عن المماراة والمدافعة في كل ما يتكلم به أخوك‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لا تمار سفيهاً فيؤذيك ولا حليماً فيقليك‏.‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة ‏"‏ هذا مع أن تركه مبطلاً واجب وقد جعل ثواب النفل أعظم لأن السكوت عن الحق أشد على النفس من السكوت على الباطل وإنما الأجر على قدر النصب‏.‏

وأشد الأسباب لإثارة نار الحقد بين الإخوان المماراة والمنافسة فإنها عين التدابر والتقاطع فإن التقاطع يقع أولاً بالآراء ثم بالأقوال ثم بالأبدان‏.‏

وقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ لا تدابروا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحرمه ولا يخذله بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ‏"‏ وأشد الاحتقار المماراة فإن من رد على غيره كلامه فقد نسبه إلى الجهل والحمق أو إلى الغفلة والسهو عن فهم الشيء على ما هو عليه وكل ذلك استحقار وإيغار للصدر وإيحاش‏.‏

وفي حديث أبي أمامة الباهلي قال‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتمارى فغضب وقال‏:‏ ‏"‏ ذروا المراء لقلة خيره وذروا المراء فإن نفعه قليل وإنه يهيج العداوة بين الإخوان ‏"‏ وقال بعض السلف‏:‏ من لاحى الإخوان وماراهم قلت مروءته وذهبت كرامته‏.‏

وقال عبد الله بن الحسن‏:‏ إياك ومماراة الرجال فإنك لن تعدم مكر حليم أو مفاجأة لئيم‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم وكثرة المماراة توجب التضييع والقطيعة وتورث العداوة‏.‏

وقد قال الحسن‏:‏ لا تشتر عداوة رجل بمودة ألف رجل‏.‏

وعلى الجملة فلا باعث على المماراة إلا إظهار التمييز بمزيد العقل والفضل واحتقار المردود عليه بإظهار جهله وهذا يشتمل على التكبر والاحتقار والإيذاء والشتم بالحمق والجهل ولا معنى للمعاداة إلا هذا فكيف تضامنه الأخوة والمصافاة فقد روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه ‏"‏ وقد قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط وجه وحسن خلق ‏"‏ والمماراة مضادة لحسن الخلق‏.‏

وقد انتهى السلف في الحذر عن المماراة والحض على المساعدة إلى حد لم يروا السؤال أصلاً‏.‏

وقالوا‏:‏ إذا قلت لأخيك قم فقال إلى أين فلا تصحبه بل قالوا ينبغي أن يقوم ولا يسأل‏.‏

وقال أبو سليمان الداراني‏:‏ كان لي أخ بالعراق فكنت أجيئه في النوائب فأقول‏:‏ أعطني من مالك شيئاً فكان يلقي إلي كيسه فآخذ منه ما أريد فجئته ذات يوم فقلت‏:‏ أحتاج إلى شيء‏.‏

فقال‏:‏ كم تريد فخرجت حلاوة إخائه من قلبي‏.‏

وقال آخر‏:‏ إذا طلبت من أخيك مالاً فقال‏:‏ ماذا تصنع به فقد ترك حق الإخاء‏.‏

واعلم أن قوام الأخوة بالموافقة في الكلام والفعل والشفقة‏.‏

قال أبو عثمان الحيري‏:‏ موافقة الإخوان خير من الشفقة عليهم وهو كما قال‏.‏

-----------------
* إحياء علوم الدين (كتاب آداب الألفة والأخوة والصحبة والمعاشرة) للإمام أبي حامد الغزالي