الحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على سيدنا محمدٍ، سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد،،

تنطلق هذه الكلمات شهادة حق يبدد زور الباطل الذي يحاول قلب الحقائق، فيحول الظالم إلى مظلومٍ، والضحية إلى جانٍ، والمطالِب بحرية أوطانه إلى معتقل أو لاجئ، تنطلق هذه الكلمات تحيةَ إجلالٍ لكل مُمسكٍ برايات الحق يرفعها في زمنٍ عزَّ فيه الرجال وهانت فيه القيم، وتحول نضاله إلى خطابات استجداء ولافتات تأييد.

تنطلق هذه الكلمات بينما يُصرُّ البعض من ولاة الأمر على أن يسوِّدوا صفحات عصرنا بسُبَّة الاستبداد الذي ترسم صورته قضبان المعتقلات ووجوهٌ غرٌّ خلفها، وأيادٍ متوضئة تُمسك بها، ودعوات مظلومة ترتجُّ لها أحجار جدرانها.. سجون لا تفرق بين مجرم قاتل أو سارق أو مزور وبين شرفاء يمثلون كل شرائح الأمة من أساتذة جامعات أو أطباء ومحامين ومدرسين ومهندسين... إلخ من خيرة رجالات أوطاننا كل جريرتهم أنهم رفعوا شعارًا ربانيًا ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود: من الآية 88).

سجون تلف الوطن برداء العار الذي سرعان ما تبليه أيادي الزمان لتستبدله برداء العز، بينما يذهب بالعار أهله ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ﴾ (الرعد: من الآية 17).

كلمات تُذكِّر الكلَّ بموقفهم من الله يوم اللقاء ليسأل كل راعٍ عما استرعاه، وكل مسئول عن مسئوليته ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)﴾ (إبراهيم)، هذا المشهد المهيب نسوقه محذرين كل ظالم من تبعاته، ومذكرين كل صاحب سلطانٍ غرَّه سلطانه بوقفته بين يدي رب الأشهاد ويداه ملتصقة بمفاتيح زنازينه، بينما دعوات المظلومين في جوف السحر تهتك كل أسوار السجون لتصل إلى ربٍ عدلٍ منتقمٍ جبارٍ يقول في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وحرمته على عبادى فلا تَظَالموا".

كلمات تعيد إلى وعي كل صاحب لُبٍّ قصةَ فرعون ذلك المستبد الذي كرر القرآن الكريم قصته مع نبي الله موسى بضع عشرة مرة، ليؤكد أنَّ الفرعنة مرضٌ نفسي شائع بين الحكام المستبدين، حتى سوَّل له استبداده فهتف في قومه ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر: من الآية 29)، فهو وحده الذي يصنع القرار، ويرى أن مَن اعتنق رأيًا قبل أن يستأذنه فهو مخطئ متمرِّد! إنه ملَكَ الضمائرَ والسرائرَ، والناسُ عبيد إحسانه، ومن ثم قال للسحرة لما آمنوا: ﴿آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ (طه: 71)، وكانت عاقبة أمره ﴿فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنْ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا﴾ (الإسراء: 103).

وكلمات تحيي كلَّ نظام عربي وإسلامي آبَ إلى رشده، وتذكَّر أنَّ حرية شعبه هي التي تحمله على البقاء وتدفعه للتقدم، وتذود عنه في مواطن الشدة، وترسخ لقيم حكم حرٍّ أبيّ قادرٍ على المواجهة والمقاومة والبناء، ورفع الظلم عن المسجونين الشرفاء ليخرجوا حاملين رايات أوطانهم وآمال أمتهم لترفرف على كل أُفق، وتعلو فوق كل صرح للاستبداد مُحيلةً إياه إلى حصن يحمي الحمى.

عز لا يضام

إنَّ تربية الإسلام لا تؤتي ثمارها إلا في بيئةٍ عزيزة، ومن ثم كانت قولة الفاروق عمر بن الخطاب الخالدة "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله"، قالها موقنًا أنَّ الإسلام قد كره الاستضعاف، وعزَم على المؤمن أن يكون حَميَّ الأنف عزيز الجانب، لا لشيء إلا لأنَّ حقوق الإنسان وُلِدت في ديننا مع النطق بكلمة التوحيد، فعندما نؤمن بالله الذي لا يُعبد غيرُه ولا يشرع غيرُه ولا يَحكم غيرُه، عندئذ تسقط كل مظاهر الاستبداد سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعيةً؛ فالإيمان بوحدانية الله وقيامِه على خلقه وتدبيره لكل أمر، والإحساس بأنه وحده الضار النافع الخافض الرافع المعطي المانع يمنح الإنسان حريةً واسعةً، تجعله لا يبالي بطواغيت الأرض كلها؛ لأنهم مهما توحَّش سلطانهم ليسوا إلا عبيدًا لربه، والمستبدون منهم لا يَزأَرون إلا في الخلاء ولا يَمتدون إلا في الفراغ، والويل للشعوب الجبانة.

ومَن يظن من ولاة الأمر أنَّ الاستبداد والقمع والمعتقلات يُولِّد ولاءً حقيقيًا فإنما يسير خلف سراب؛ فما كل هذه المظاهر إلا مولِّدة للكذب الإعلامي والتحايل السياسي والنفاق الاجتماعى، كما أنها تنشئ عبيدًا للسلطة يسيرون خلف المستبدين، وما يبنيه المصلحون للشعوب- مع ضعفها- يهدمه الاستبداد بقوته مولدًا ريحًا صرصرًا يجعل الإنسان حيرانًا، وتتحول العبادات إلى عاداتٍ لا روحَ فيها، لا تطهر النفس ولا تنهى صاحبها عن منكر.

فيا قومنا

إنَّ مجد أمتنا التليد لم تصنعه يومًا قوانين طوارئ ولا محاكم استثنائية ولا أحكام عرفية، ولا شرطة ترهب الشرفاء، ولا سجون تواري خلف قضبانها خيرة الرجال، وإنما يصنعه ما وصف به القرآن نبي الإسلام- صلى الله عليه وسلم- حين يقول: ﴿ويَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (الأعراف: من الآية 157)، فالإصر والأغلال التي كانت في أعناق الناس مما كبتت حرياتهم، وضعها الإسلام عن الناس فأطلقهم وحررهم بعد أن استعبدتهم القيود والجهالات.

ولم يمنع الثأر الشخصي ولا الاستبداد يومًا دولة الحق الإسلامية من أن تعدل، حتى إنَّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- رأى وحشيًّا- الذي قتل عمَّه حمزةَ أحبَّ الناس إليه- فما استطاع أن يسيء إليه بكلمة بعدما أسلم.

ومثله فعل عمر بن الخطاب عندما رأى قاتل أخيه زيد في معركة اليمامة، إذ قال عمر: والله لا أحبك! قال: أويمنعني ذلك حقي يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، قال: لا ضيرَ، إنما يَأسَى على الحبِّ النساءُ! ولقد رفض عثمان أن يَستنفِر أهلَ المدينة- خصوصًا قبيلته- للدفاع عنه، حَقنًا لدماء مَن استباحوا دمه، ولو كان حاكم غيره لأهلك نصفَ الناس للدفاع عن شخصه!!

في هذه البيئة الحرة تَربَّى الرجال الذين هَدَموا القيصرية والكِسرَوية، وردد التاريخ قول ربعي ابن عامر بين يدي ملك فارس: "نحن قوم ابتعثنا الله لنُخرِج الناسَ من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعةِ الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"، موضحًا بكلماتٍ بسيطةٍ ورصينة الهدفَ الأصيلَ لرسالةِ الإسلامِ وجوهر شريعته التي تجعل الإنسانَ لا ينحني إلا لربه وحده في ظل توازنٍ حقيقي بين متطلبات الدنيا واستحقاقات الآخرة، وفي إطار عدالةٍ كاملةٍ تحقق المساواة بين الحكام والمحكومين، وبين المسلمين وغيرهم، ومن هنا كانت البيئة الحرة المِهادَ الفَذَّ لتكوين الأمةِ المسلمةِ العارفةِ بربها السيدةِ في وطنها، التي لا يُجار عليها ولا يُستباح حِمَاها.
وبعد

فإنَّ الإخوان المسلمين لا يرون اليوم من مآزق أمتنا مخرجًا إلا العودة إلى أصول الحرية التي كفلها الإسلام لكل بني البشر؛ بدايةً من حرية الاعتقاد ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: من الآية 256).

مرورًا بالحريات السياسية والمالية والثقافية والاجتماعية، حتى تتمكن الأمة من صياغة نهضةٍ حقيقيةٍ تؤهلها لاستعادةِ مجدها وعزَّها، والتعبير عن إرادتها في اختيارِ حكامها وولاة الأمر فيها لتتحمل معهم نتيجةَ اختياراتها.

أما فيما يخص السير على طريق الإصلاح فإنَّ الكلَّ مطالبٌ بأن يتحرك حاملاً مشعلَ التغييرِ، وممسكًا بزمام المبادرة، وقادرًا على رفض الاستبداد وثقافاته المفروضة.

وأنتم يا زهور زماننا النضرة خلف قضبان السجون والمعتقلات.. يا رهائن عصر الاستبداد والقمع.. ويا روح العز التي تسري في بدن الأوطان.. إليكم وحدكم تحية العز والفخار.. بدعواتكم تمنحون القوة لكل آملٍ في الإصلاح، واعلموا أنَّ دولةً تحرسها السجونُ أضعفُ من أن تدوم؛ فكم من سجينٍ حقٍّ كتبَ التاريخُ اسمه على صدر صفحاته بأحرفٍ من نورٍ بينما طمس أسماء سجانيه، وبشارة الله حق﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾ (القصص)، فالوصية بيننا الحق والصبر ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200)، و﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 35).
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والله أكبر ولله الحمد.

--------

من رسائل  - المرشد السابع للإخوان المسلمين الشهيد محمد مهدي عاكف