بقلم: د. رشاد لاشين
ويمضي المراهق في رحلته من الاستعفاف والمقاومة إلى الإنجاز والتمكين، والفتنة تحوطه من كل جانب وبكل الأساليب: هو جميل ووسيم، وفي مرحلة نضج الغريزة واشتدادها، ومرغوب فيه ومشغوف به، والإعلام يتحدث عنه، وسيدة القصر تدبِّر له، وينتقل الحال من مجرد المراودة والعرض والإغراء إلى الأمر والإجبار والتهديد، وكأن الله تعالى يقدم نموذجًا لكل شاب، ولكل فتاة، بأن لا حجة لأحد، فقد اجتمعت على سيدنا يوسف كل الظروف والأحوال التي تدعو للانزلاق في الفاحشة ترغيبًا وترهيبًا، ولكنه لم يسقط ولم يضعف ولم يهتز ليبقى على مدى الزمن حجة على كل شاب وكل فتاة بأن الإنسان يستطيع أن يملك نفسه وأن يستعصم.
الحلقة الثانية: الفتنة بالإجبار والتهديد (يوسف: الآيات من 30- 35)
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًَا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)﴾.
الرؤية الصحيحة للحب العاطفي خارج إطار الزواج الشرعي:
الإعلام الفاسد كثيرًا ما يزيف الأمور، ويغير الصورة، ويسول للشباب الانزلاق في علاقات مع الجنس الآخر باسم الحب وخارج إطار الزواج الشرعي، وكثيرًا ما ينطلي هذا الإغواء على الشباب المسكين الذي لا يملك التربية الصحيحة، ولا الرؤية الصحيحة، ونحن هنا أمام توصيف حقيقي صحيح لهذا الحب العاطفي:
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)﴾
الفعل المشين مفضوح، وغير مقبول، مهما كان مصدره، ومن ينزلق في الفاحشة، أو يسعى إليها يصبح مادة للتشهير، وأحاديث العامة، وتصنيفه لا يختلف عليه الناس حتى الكافرون، فهذه سيدة القصر المشغوفة بالحب غير المشروع تصنيفها عند العامة ونسوة المدينة أنها في ضلال واضح وبين وظاهر: ﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.
الجمال الرائع الباهر لا يبرر للجميل ولا للمبهورين به السقوط في الفاحشة:
من طبيعة الإنسان أن يحب الجمال وأن ينبهر به، ولكن الله تعالى وضع لنا الضوابط التي ترتقي بالإنسان وتصونه عن الاستمتاع بما لا يحل له وتمنعه من أن يطلق لنفسه العنان وراء الشهوات هنا وهناك.. ونحن هنا أمام نموذج للشغف بالحب وفقدان الرؤية الصحيحة والسلوك الصحيح مع اللجوء للحيل والمكر لتبرير الشغف بالحب والاستغراق في الشهوات:
﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًَا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)﴾.
الشاب المشدوه بالحب خالي القلب من الإيمان تجده مأخوذًا يقول: اضطررت للوقوع في الحب؛ لأن البنت شكلها وصفه كذا، وشعرها وصفه كذا، وكلامها وصفه كذا، ورقتها وجمالها و.. و.. و.. أو الفتاة التي تتحدث عن الشاب الوسيم الجميل الذي وقعت في حبه من أول مرة كل هذا لا يبرر؛ فالجمال ليس مدعاة للغرور أو الانحراف أو الوقوع في الفتنة.
ضغوط السلطة الحاكمة هل تبرر الوقوع في الفتنة؟:
الجو السائد والثقافة المنتشرة قد تدفع الشباب للمشي في الركاب أو مسايرة الأمور طالما أن القيادة المستنيرة- كما يدعون- تقدم الانحلال والفحش والرذيلة باسم الفن أو التحضر أو التقدم، وتعظم من شأن الراقصات والمستهترين، وتسمي الساقطين بالنجوم، وتعمل آلة الإعلام ليل نهار على دغدغة العواطف، وتحريك الغرائز، وتلبية نوازع الشهوات، والتبرير لها بل والدفع للوقوع فيها بنشر التبرج والعري والبرامج الفاسدة، والسماح ببيوت الدعارة أو غض الطرف عنها و.. و.. ونحن هنا أمام نموذج لتبرير الوقوع في الفاحشة ثم التبجح والجرأة في التعاطي معها:
﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)﴾.
جرأة وتبجح وأمر مباشر بممارسة الفاحشة تدعو للتعجب!! ولكن إذا عُرف السبب بطل العجب، فالإيمان هو الذي يصنع الحياء ويبنيه في نفس الإنسان، وحينما يفقد الإيمان يغيب الحياء، فالحياء من الإيمان و"إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
انتقل طلب الفاحشة هنا من مرحلة العرض والإغراء إلى مرحلة الأمر ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ﴾ ليس فقط الأمر بل والتهديد ﴿لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ إذا أصررت أيها الشاب على العفة، والعصمة، والطهارة، والامتناع، عن ارتكاب الفاحشة؛ فستكون النتيجة أن تُسجن وتهان وتصبح من الصاغرين.
في هذا الجو الصارخ من التبجح قد تسأل وتتعجب؟! أين ذهبت رجولة الرجال، وشهامة الشِّهام، وحمية أصحاب النخوة؟ فيأتي التشخيص: ذهبت أدراج الرياح في جو يغيب فيه الإيمان وتسيطر فيه الغرائز.
نموذج المستعصم الرائع الذي لا يترك حجة أو فرصة لأحد:
هذا نموذج رائع للشاب المستعصم الذي يتعرض للفتنة بالعرض والترغيب والإغراء من قبل الجميلة المتهيئة المستعدة؛ فلا يستجيب ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾.
وكانت استجابته الفورية عند المراودة ﴿قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾.
ويتعرض للأمر والإجبار والتهديد من قبل السلطة الحاكمة فلا يستجيب ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ وكانت استجابته الفورية عند التهديد: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ (33)﴾.
فهل يبقى بعد ذلك حجة أو فرصة تبرر لشاب أو فتاة الوقوع في الفاحشة تحت أي مسمى أو أي عذر؟ بالطبع لا.. وهذه هي روعة التربية القرآنية العظيمة التي تقدم القدوة والنموذج الرائع الراقي الذي يصنع الجيل الطاهر العفيف. لذا احرصي أيتها الفتاة أن تكوني أنت المستعصمة، واحرص أيها الشاب أن تكون أنت المستعصم:
يتوفر الإغراء ويسود الانحلال (فأنت المستعصم)؛ تمر الفتاة المتبرجة (فأنت المستعصم) يعرض الإعلان المستهتر (فأنت المستعصم)؛ تتوفر القناة الإباحية أو الموقع الإباحي (فأنت المستعصم)؛ يعرض عليك كذا (فأنت المستعصم)؛ تهدد بكذا (فأنت المستعصم).
صناعة الاستعصام:
وهذا الاستعصام يحتاج إلى إعداد وأدوات، فالمؤمن التقي يستطيع أن يواجه الفتن حينما يمتلك ثلاثة أسلحة مهمة تتمثل في الآتي:
1- الاستعانة بالله تعالى واللجوء إليه: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾.
2- وضوح الرؤية: ﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ﴾.
3- الاستعداد للتضحية: ﴿السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾.
حتى نصنع هذا الاستعصام في نفوسنا ونفوس شبابنا يجب أن تتوفر التربية التي تربي الإنسان على أن يلجأ دائمًا إلى ربه المعين القوي الذي يعصم من الفتن والزلل وتؤهله هذه التربية في نفس الوقت أن يكون واعيًا بصيرًا صاحب رؤية صحيحة حكيمة وتدربه أن يكون على أتم استعداد لدفع ثمن مبادئه والتضحية من أجلها أولاً بشهوته وثانيًا بأغلى ما يملك: بحريته ودخول السجن وتحمل المعاناة وذلك لئلا يضيع دينه وتضيع كرامته ويصبح جاهلاً من الجاهلين.
مقاومة الاستعصام:
نعم، هذا حال الشاب الرائع الموصول بربه، يستمسك، ويستعصم، وتظهر براءته، ولكن حال أصحاب الضلال المتورطين المنزلقين لا يتورعون: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)﴾، فيسجنون الطاهرين، ويطلقون العِنان للمنحرفين؛ وهكذا حال الإدارات الحاكمة غير المنضبطة بشرع الله في كل وقت وحين تدعو الشباب للفتنة وتلاحق الطاهرين بالسجن.. وفي عصرنا الحاضر يتكرر السيناريو بأساليب مختلفة؛ فوسائل الإعلام تعمل ليل نهار على إغراء الشباب، وإغوائهم، وجرهم إلى الفتن والفواحش.
ومن يستعصم ويستمسك بدينه ويسير في ركاب الصالحين قد يتعرض للسجن والاعتقال.