بقلم: د. توفيق زبادي*

عندما أمر الله عزوجل موسى ـ عليه السلام  ـ بالذهاب إلى دعوة فرعون، طلب من الله عزوجل المُعين له على تبليغ الرسالة :

قال تعالى لموسى عليه السلام: }اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى { ، قال موسى بعد هذا الأمر:  } رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي . وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي . وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي  . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي . كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا. وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا  . إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا{ ، فاستجاب الله  Uلطلب موسىu كما قال تعالى : }قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى {([1]).

قال السعدي –رحمه الله:" هذا السؤال من موسى ـ عليه السلام ـ يدل على كمال معرفته بالله، وكمال فطنته ومعرفته للأمور، وكمال نصحه، وذلك أن الداعي إلى الله المرشد للخلق خصوصاً إذا كان المدعو من أهل العناد والتكبر والطغيان يحتاج إلى سعة صدر وحلم تام على ما يصيبه من الأذى، ولسان فصيح يتمكن من التعبير به عن ما يريده ويقصده، بل الفصاحة والبلاغة لصاحب هذا المقام من ألزم ما يكون؛ لكثرة المراجعات والمراوضات، ولحاجته لتحسين الحق وتزيينه بما يقدر عليه؛ ليحببه إلى النفوس وإلى تقبيح الباطل وتهجينه؛ لينفر عنه، ويحتاج مع ذلك أيضا أن يتيسر له أمره فيأتي البيوت من أبوابها ويدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، يعامل الناس كلا بحسب حاله، وتمام ذلك أن يكون لمن هذه صفته أعوان ووزراء يساعدونه على مطلوبه ؛ لأن الأصوات إذا كَثُرَت لا بد أن تؤثر فلذلك سأل u هذه الأمور فأعطيها" ([2]).

وهنا تساؤل : هل طلب موسى للمُعين يُعد تنصلاً من التكليف ؟

قال النسفي-رحمه الله - :" . ولم يكن هذا الالتماس من موسى u توقفاً في الامتثال بل التماس عون في تبليغ الرسالة، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر ليس بتوقف في امتثال الأمر، وكفى بطلب العون دليلاً على التقبل لا على التعلل"([3]).

 

وقال ابن عاشور- رحمه الله - :" هذا سؤال صريح يدل على أن موسى لا يريد بالأول التنصل من التبليغ، ولكنه أراد تأييده بأخيه. وإنما عينه ولم يسأل مؤيداً ما؛ لعلمه بأمانته وإخلاصه لله ولأخيه وعلمه بفصاحة لسانه"([4]).

 

وقال سيد قطب-رحمه الله -  :" وطلب –إلى الله - أن يوحي إلى هارون أخيه، ويشركه معه في الرسالة اتقاء للتقصير في أداء التكليف، لا نكوصاً ولا اعتذاراً عن التكليف. فهارون أفصح لساناً ومن ثم هو أهدأ انفعالاً؛ فإذا أدركت موسى حبسة أو ضيق نهض هارون بالجدل والمحاجة والبيان .

ولقد دعا موسى ربه ليحل هذه العقدة من لسانه  } وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي {([5])، ولكنه زيادة في الاحتياط للنهوض بالتكليف طلب معه أخاه هارون وزيراً ومعيناً.

 

وكذلك الشأن في قوله : } وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ{([6])،  فإن ذكره هنا ليس للخوف من المواجهة، والتخلي عن التكليف. ولكن له علاقة بالإرسال إلى هارون . حتى إذا قتلوه قام هارون من بعده بالرسالة، وأتم الواجب كما أمره ربه دون تعويق.

 

فهو الاحتياط للدعوة لا للداعية :

 

 الاحتياط من أن يحتبس لسانه في الأولى:  وهو في موقف المنافحة عن رسالة ربه وبيانها، فتبدو الدعوة ضعيفة قاصرة .

 

والاحتياط من أن يقتلوه في الثانية:  فتتوقف دعوة ربه التي كلف أداءها وهو على إبلاغها واطرادها حريص. وهذا هو الذي يليق بموسى ـ عليه السلام ـ  الذي صنعه الله على عينه، واصطنعه لنفسه، ولما علمه ربه من حرصه هذا وإشفاقه واحتياطه أجابه إلى ما سأل، وطمأنه مما يخاف ([7]).

 

وقياساً على ما طلبه موسى بعد ذكر عذره وبيان حاله :

 

    أن يقترح الداعية من يعينه على الدعوة إذا أُرْسِلَ في مهمة دعوية .

    أن يحرص الداعية  على إنجاح الدعوة ولو بإشراك غيره كلما خاف من نفسه تقصيراً في متطلبات الدعوة، وعدم قدرته على الانفراد والاستقلال في أعمالها ومتطلباتها، وهذا من علامة صدقه.

    أن يقترح الداعية الأخ الكُفْء  عِوضاً عنه إذا رأى المصلحة في ذلك، ولا يضيق صدره من عمل الكفء، وعند إقبال الناس عليه، وإذا وجد في نفسه ذلك فليعلم أن إخلاصه مشوب، فليسرع إلى تنقيته، فشر ما يُبتلى به مجتمع الدعاة الفُرْقة والتحاسد .

 

وعي الصحابة  في اختيار الكفء في المهام :

 

لما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الحديبية فزعت قريش، فأراد أن يرسل إليهم رجلاً من أصحابه، فاختار عمر بن الخطاب، فأشار عمر إلى الكفء لهذه المهمة :

 

قال ابن القيم –رحمه الله - " َفَزِعَتْ قُرَيْشٌ لِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ- في الحديبية-  فَأَحَبّ رَسُولُ اللّهِ r أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَدَعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِيَبْعَثَهُ إلَيْهِمْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ لَيْسَ لِي بِمَكّةَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ يَغْضَبُ لِي إنْ أُوذِيت فَأَرْسِلْ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ فَإِنّ عَشِيرَتَهُ بِهَا وَإِنّهُ مُبَلّغٌ مَا أَرَدْت.

 

فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ فَأَرْسَلَهُ إلَى قُرَيْشٍ وَقَالَ: أَخْبِرْهُمْ أَنّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالٍ وَإِنّمَا جِئْنَا عُمّارًا وَادْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ رِجَالًا بِمَكّةَ مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ فَيَدْخُلَ عَلَيْهِمْ وَيُبَشّرُهُمْ بِالْفَتْحِ وَيُخْبِرَهُمْ أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ مُظْهِرٌ دِينَهُ بِمَكّةَ حَتّى لَا يُسْتَخْفَى فِيهَا بِالْإِيمَانِ"([8]).

وهكذا لابد من اختيار الرجل المناسب للمهمة المناسبة .

*   أستاذ التفسير وعلوم القرآن الكريم

 

 

[1] سورة طه : 24 -36 .

 

[2] السعدي : 504.

 

[3] تفسير النسفي : 2/ 463 .

 

[4] التحرير والتنوير :20/ 116.

 

[5] سورة طه27

 

[6] سورة الشعراء14

 

[7] الظلال : 4/ 2590 .

 

[8] زاد المعاد : 3/ 257 .