كانت معركة بدر صباح يوم الجمعة- السابع عشر من رمضان من العام الثاني للهجرة، ويُمثل انتصار المسلمين في هذه المعركة نقطة مضيئة- لا في حياةِ المسلمين فحسب- ولكن في حياةِ البشرية جمعاء؛ لأنها لم تكن مجرد انتصار جيش على جيش، بل انتصار قيم إنسانية عليا على أخلاقيات منحدرة، وطوابع نفسية وعقلية متعفنة موكوسة مهترئة.

 

وكثيرة هي الأسباب التي أدَّت إلى انتصار المسلمين في هذه المعركة، منها: حسْن تدريب المسلمين، فقد بعث النبي- صلى الله عليه وسلم- بمئاتٍ منهم وخصوصًا المهاجرين في عددٍ من السرايا, فكان تدريبهم ميدانيًّا عمليًّا مثمرًا, وكان ذلك قبل بدر، ومنها القيادة الحكيمة وهي قيادة الرسول- صلى الله عليه وسلم- الذي كان يستشير أصحابه وجنوده مع أنه نبي يُوحى إليه, حتى إنه ألغى قرارًا له, وأخذ برأي أحد جنوده وهو الحباب بن المنذر, ثم إنَّ الحب الصادق العميق كان هو الآصرة القوية التي تربط بين هذه القيادة الرشيدة الهادية والجنود المقاتلين في سبيل الله.

 

وفي مقابل ذلك كان قائد جيش الكفار- وهو أبو جهل- يتسم بالطيش والحماقة والاستبداد بالرأي، فرفض- في عنجهيةٍ وتكبرٍ- رأي علية قومه بالرجوع إلى مكة وحقن الدماء.

 

وأهم عوامل النصر عقيدة الإيمان الراسخ في قلوب المسلمين وحرصهم على الفداء والشهادة.

 

وفي السطور التالية:

أفصل الكلام- بعض الشيء عن عاملٍ غيبي نصَّ عليه القرآن، وأعني به نزول الملائكة واشتراكهم في القتال، قال ابن هشام في السيرة النبوية: "ولم تقاتل الملائكة في يومٍ سوى بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددًا ومددًا، لا يَـضرِبون".

 

أي أن مهمتهم في غير بدر من معارك المسلمين كانت مهمة نفسية روحية، تكاد تنحصر في الشحن المعنوي والروحي.

 

وفي الأثر الصحيح أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخذه نعاس خفيف، قُبيل المعركة وهو في العريشة أي غرفة القيادة بالتعبير الحديث، ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله! هذا جبريل آخذُ بعنان فرس، يقوده على ثنايها النقع "أي على طوايا ملابسه غبار الحرب".

 

وفي سورة الأنفال "الآية 9" يقول تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾.

 

ويقول تعالى في الآية 12: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾.

 

ولنا من هاتين الآيتين استخلاصات تتلخص فيما يأتي:

1- أن الله سبحانه وتعالى لم يمد المسلمين بالملائكة إلا بعد أن استغاثوه ودعوه أن ينصرهم، ونأخذ من ذلك أن على المسلم أن يتجه إلى ربه دائمًا بالدعاء، وخصوصًا أوقات الكربات والأزمات، وهو القائل ﴿ادعُونِي اسْتَجِبْ لَكُم﴾.

 

2- أن اشتراك الملائكة في القتال لا يلغي دور المسلمين فيه، فهم أصحاب الدور الرئيسي فيه، بدليل التعبير عنهم بأنهم "مدد" للتثبيت، ثم المساعدة في القتال الفعلي وبدليل توجيه الأوامر بعد ذلك للمسلمين مثل: ﴿إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ﴾.

 

3- أن مصدر قوة الملائكة وقدرتهم الخارقة لا يرجع إلى تفردية ذاتية، ولكن يرجع إلى قدرة الله وتأييده، أي يرجع إلى قاعدة "أني معكم" فالإيحاء للملائكة بذلك يمنحهم القوة الخارقة لتثبيت الذين آمنوا، ثم يكون إلقاء الرعب في قلوب الكفار عملاً إلهيًا يسهل مهمة الملائكة في الضرب فوق الأعناق وضرب كل بنان.

 

 ومن ذلك نتعلم أن من أدب الإسلام أن نسند الأمور في أصولها إلى الله سبحانه وتعالى، فالخلق جميعًا- سواء أكانوا ملائكة أم بشرًا- ما هم إلا وسائل، نعم وسائل تعدم قدرتها، وتفقد إمكاناتها، إذا تخلت عنها القاعدة التي أشرنا إليها، قاعدة "إني معكم" وما أصدق قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ (الأنفال: 17).

 

ولكن أحد أساتذة الفلسفة يعلن- في إحدى القنوات الفضائية- أنه يعتبر هذه القوة الغيبية خرافة, وأن الإيمان بها تخلف، ومما قاله بالحرف الواحد: "إننا نعيش في العالم العربي الذي تروج فيه الخرافة، إنه شيء من أعجب ما يمكن: الجندي المصري من سنة 1967- إلى سنة 1973 في الخنادق يتدرب ويعاني ويقاسي, ويعبر إلى سيناء, ويحتل 25 كيلو بقوة وعظمة, ثم يزعمون أن الملائكة كانت معاه... يعني لازم تجيبوا له قوة غيبية معاه, تقولوا هي اللي حاربت.. إنه تفكير خرافي كان أسرع من التفكير العقلاني".

 

وأنبه الدكتور إلى أن الإيمان بالغيب- ومنه الملائكة- يُعدُّ ثابتةً من ثوابت ديننا، فمن صفات المتقين أنهم: ﴿الذين يؤمنون بالغيب....﴾ (البقرة: 3)، وقال تعالي: ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله....﴾ (البقرة: 285).

 

وأقول للسيد الدكتور المحترم: إن تأييد الملائكة للمؤمنين في أي عصر, لا يسلب هؤلاء المؤمنين قوتهم وعظمتهم, وهذا ما قلناه في السطور السابقة، ولا شك أن شعور الجندي المؤمن بأن هناك "قوة غيبية فوقية تؤيده وتثبته, ستدفعه إلى القتال باستماتة حتى يحقق النصر أو الشهادة".. فلنطلق على هذه القوة الغيبية "الملائكة", أو "روح الله" على حد قوله تعالى عن المؤمنين الذين يقدمون العقيدة علي الأهل والولد والعشيرة.. ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (المجادلة: من الآية 22).

 

وهذه "القوة الغيبية الفوقية" تأخذ خطها المخالف, أو المناقض لما تعارف عليه الناس, واطرد في أنظارهم حتى اعتقدوا أنه "قانون لا يُغلب".. وفي هذا المعني يقول تعالى مخاطبًا الكفار: ﴿ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثُرت وأنَّ الله مَعَ المؤمنين﴾ (الأنفال: 19).

 

وعلى لسان الفئة المؤمنة يقول تعالى:﴿كم من فئةٍ قليلةٍ غلبتْ فئةً كثيرةً بإذنِ الله والله مع الصابرين﴾ (البقرة: 249).

 

صور من واقعنا المشهود..

وفي تاريخنا الحديث من هذه الصور الواقعية المشهودة ما يؤكد أن هذه "القوة الغيبية" حقيقة لا يعتورها الشك, وليست من قبيل التفكير الخرافي, كما يعتقد السيد المحترم، وكنت أتمنى لو قرأ عن القلة المؤمنة من الشباب الإسلامي, وجهادهم في فلسطين وخصوصًا معركة "التبة 86" مما شهد به القائدان أحمد المواوي, وفؤاد صادق, بل موشى ديان نفسه الذي وصفهم "بالمجانين" في قتالهم "لأنهم وُعدوا بمكانٍ فيه خمر وليال حمراء.. اسمه الجنة إلخ"، وما قاموا به لا تُحيط به المقاييس العقلية والعسكرية المعهودة، وكذلك صور أخرى في عبور 1973, ومنها حكاية الجندي "عبد العاطي" الذي اصطاد بمفرده- على الأرض- 23 دبابة, مما لم يحققه جندي في الحربين العالميتين.

 

معركة أنوال..

ومَن يجهل الأمير المؤمن: عبد الكريم الخطابي (1882- 1963) القائد المغربي المجاهد الذي قاد الثورة المسلحة ضد الاحتلال الأسباني والفرنسي, والتي عرفت بثورة الريف (1919-  1925) وبألف مقاتل, استطاع (سنة 1340هـ- 1921م) أن يبيد جيشًا أسبانيًّا من 24 ألف مقاتل ما نجا منهم أحد, في معركة (أنوال) الشهيرة بقيادة "الجنرال سلفستر"، وقد اعترفت أسبانيا رسميًّا بصحة هذا الرقم, وبعدها تمكَّن الأمير عبد الكريم من السيطرة على بلاد الريف, ومنطقة عمارة, واتخذ من أغادرير عاصمة له، وكانت معركة )أنوال) هي السبب المباشر في سقوط الحكومة الأسبانية في مدريد.
والحق أحق أن يُتبع يا ... دكتور.