في عالم يضج بالتقلبات والقلق، يبقى الأمان النفسي والاجتماعي هو الركيزة التي لا يمكن لأي مجتمع أن يقوم دونها. وقد أدرك الإسلام هذا الأمر منذ فجره الأول، فجعل الأمن والعدل من أوائل المبادئ التي تقوم عليها الدولة الإسلامية، ولم يربط هذه النعمة بدين أو عرق أو طبقة، بل جعلها حقًا إنسانيًا لكل من يعيش في كنف الدولة المسلمة، مسلمًا كان أم غير مسلم، موافقًا في الرأي أو مختلفًا.
العدل أساس الملك: تكليف إلهي وليس ترفًا سياسيًا
قال تعالى:
﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأماناتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: 58]
لم تكن هذه الآية خطابًا وعظيًا، بل كانت تأسيسًا تشريعيًا لأحد أهم أركان الدولة الإسلامية: العدل. فالعدل ليس فقط في المحاكم، بل في توزيع الفرص، وتكافؤ الحقوق، وتوفير ضروريات الحياة من مأكل ومشرب ومسكن وتعليم وعلاج.
ضمان الحقوق للجميع: حتى لمن خالفونا في الدين
ضرب الإسلام أروع الأمثلة في ضمان حقوق غير المسلمين داخل الدولة، ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين رأى شيخًا يهوديًا يسأل الناس في الطرقات، أمر له من بيت مال المسلمين بما يغنيه، وقال قولته الخالدة:
"أكلنا شبابه، وتركناه عند شيبته؟!"إنه العدل، لا الشعارات.
تحريم الترويع وبث الخوف في الناس
لم يقف الإسلام عند حدود ضمان الحقوق، بل حذر من كل ما يُفقد الإنسان أمنه النفسي، فقال رسول الله ﷺ:
"لا يحل لمسلم أن يروّع مسلمًا" [رواه أبو داود]
والرواية تشمل كل صور الترهيب، المادي والمعنوي، من تهديد واعتقال وتعذيب وتشويه سُمعة... كل ما من شأنه أن يجعل الإنسان يعيش خائفًا، قلقا، مشوشًا.
دور الدولة المسلمة: تأمين لا قمع
حين أسس النبي ﷺ الدولة في المدينة، أول ما قام به هو كتابة صحيفة المدينة، التي نظّمت العلاقة بين المسلمين واليهود والمشركين داخل الدولة الواحدة، وضمن فيها حرية المعتقد، وأمن الطريق، وتكافؤ الحقوق. لم تكن تلك الصحيفة دعاية، بل عهدًا يُكتب فيه:
"وأن اليهود أمة مع المؤمنين، لهم دينهم وللمسلمين دينهم، وأن بينهم النصرة، والبر دون الإثم." وفيها ( وأنه لا يحول هـذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم )
هذا هو الإسلام حين يُطبّق.
الواقع اليوم: أنظمة قامت على الدبابة لا على القيم
لكننا اليوم نعيش واقعًا مختلفًا. أنظمة تحكم بالدبابة، لا بالدستور. تظن أن قمع الناس طريق للولاء، وأن البطش بديل للعدل. شعوب خُدعت بشعارات جوفاء، ثم وجدت نفسها تحت وطأة الاستبداد، تتنفس الخوف وتبلع الإهانة، بينما ثروات البلاد تُنهب، وكرامات العباد تُسحق.
تلك الأنظمة لا تعيش إلا في الظلام، ولا تنمو إلا في ظل الخوف، ولا تدوم إلا حين يموت صوت الحق. لكنها نسيت أن الخوف لا يُطيل عمر الباطل، بل يُمهّده للسقوط.
زهو الباطل... زائل
قال تعالى:
﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء: 18]
يبدو الباطل في لحظاته الأخيرة مزهوًا، صاخبًا، متكبرًا. لكنه في الحقيقة يعيش سكرات النهاية. فالحق لا يموت، لأنه لا يعتمد على القوة، بل على الإيمان بقضية، على ارتباط بالله، على رؤية أخلاقية تملك الحلول وتؤمن بالناس.
رسالة
أيتها الشعوب: لا تسكني للخوف، فإن خوفك وقود الطغاة.
أيها الأحرار: لا تيأسوا من بطء النصر، فإن الحق لا يموت وإن خفت صوته.
أيها الحكام: الظلم والاستبداد لا يحق استقرارا ولا يطيل عمرا بل هو وقود لحراك شعبي تسترد به الشعوب حقها المغتصب
وسنن الله لا تتبدل ولا تتحول فقط هي مراحل الابتلاء والتمحيص وقبل ذلك قالها قوم موسي لموسي عليه السلام
﴿ قَالُوٓاْ أُوذِينَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِيَنَا وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرَ كَيۡفَ تَعۡمَلُونَ ﴾ [ الأعراف: 129]