السؤال: أرجو من فضيلتك ألا تغضب عليّ، ولا يتمعر وجهك من الغيظ مني، والسخط عليّ؛ إذا قرأت هذه الرسالة، فالحقيقة أني أكتبها إليك بعد أن فاض بي الكيل، وبلغ السيل الزبى، كما يقول العرب.

وخلاصة قولي: أني شاب سيء الحظ، مائل البخت، أملك أسلحة كثيرة، ولكنها كلها مغلولة، القدر هو الذي يغلها وهي سليمة.

أرى كل من هم دوني ذكاءً وعلمًا وقدرات تُفتح لهم الأبواب، وتُتاح لهم أنواع من الفرص مرة بعد أخرى، وأنا أجد الأبواب في وجهي مسدودة، والفرص ضائعة، والدنيا مسودة في عيني.

لقد نشأت في بيئة فقيرة، ولكني استطعت أن أتعلم وأكمل تعليمي، وأضع لنفسي منهجًا في التحصيل، صممت عليه، ووصلت إليه، والحمد لله.

ولم أكتف بلغتي الأصلية، ولا بلغة أخرى معها؛ بل تعلمت خمس لغات عالمية، قَلَّ في الناس من يجتمع له مثلها، وكنت أظن أول الأمر أن هذا التحصيل العلمي واللغوي سيزيح أمامي كل العوائق والسدود، ولكن للأسف كل عمل أدخل فيه؛ تظهر لي عقبات كؤود، وخصوم يكيدون لي، ويتبجحون؛ فأطرَد منه، دون جرم مني أعلمه، أو تقصير في واجبي الذي كُلِّفت به. ولكنه كيد الكائدين، وحسد الحاسدين.

وقد تكرر هذا علي؛ حتى أصبحت أعتقد أني رجل مشؤوم، وأن النكد مكتوب عليّ، معقود برأسي، وأن القدر الإلهي يحاربني ويقف في وجهي. هذا مع أنني إنسان متدين أصلي وأصوم وأؤدي الفرائض وأعتز بديني، وأعتقد أن الخير كل الخير في الاستمساك به، واتباع هداه.

فهل عندك حل لهذه المعضلة؟ فقد طفح الكأس، وحل بي اليأس، وتراودني أفكار لا يمكنني أن أبوح بها، ولا تليق بإنسان مؤمن، ولكن شدة الضغط قد تحدث الانفجار، كما لا يخفى عليكم.

أنا في انتظار جوابكم على أحر من الجمر سدد الله لكم، وأجرى الخير على أيديكم.

جواب فضيلة الشيخ القرضاوي:

الأخ العزيز.. أحمد إليك الله تعالى، وأصلي وأسلم على رسوله وآله وصحبه، وأحييك بتحية الإسلام، فسلام الله عليك ورحمته وبركاته.. أما بعد..

فقد قرأت رسالتك، ولم يغمر وجهي الغضب منها كما توقعت؛ بل عصر قلبي الألم لما احتوته. فإن المسلم الحق يذوب قلبه حسرات؛ إذا وجد إنسانًا، أي إنسان يُعذَّب، فكيف بأخ مسلم تربطني به عقيدة الإسلام؟!

كل ما أريده أن تدع أنت الغضب والانفعال، وتنظر في أمر نفسك بهدوء واتزان، بدل أن تصب جام سخطك على القضاء والقدر، وعلى الأرض والسماء، وعلى الخلق والخالق.

تذكر هذه الحقائق:

أريد يا أخي أن تذكر حقائق مهمة يجب أن تضعها نصب عينيك:

1- تذكر النعم الموجودة:

الأولى: أن المؤمن البصير لا ينبغي أن ينظر إلى ما ينقصه ويفتقده فقط؛ بل يجب أن ينظر أولًا إلى ما عنده من نعم الله تعالى؛ وسيجد أن ما عنده كثير، ولكنه لا يراه، أو يراه ولكنه يبخسه ولا يُقدِّره حق قدره.

ورضي الله عن عروة بن الزبير؛ فقد نزلت به مصيبتان في يوم واحد: رفست فرسًا ابنًا له فمات، وقطع الطبيب رجلًا له، حتى لا يسري الداء في بدنه كله؛ ولكنه مع هذا حمد الله تعالى، إذ نظر إلى ابنه المقتول، وإلى ابنه الآخر؛ فقال: اللهم إن كنت أخذت فقد أعطيت. نظر إلى رجله المقطوعة، ورجله الأخرى السليمة، وقال: اللهم إن كنت ابتليت فقد عافيت!

فكان نظره إلى النعمة التي بقيت له؛ رضًا وشكر، ولو نظر إلى النعمة التي حرمها فقط لسخط وجزع.

وأنت لو نظرت إلى نفسك؛ لوجدت عندك نعمًا جمة، لا تريد أن تعترف بها، أو لعلك غافل عنها.

أ. فقد رزقك الله صحة الجسم، فلم تولد مشوهًا ولا معوقًا ولا صاحب عاهة.

ت. ورزقك قوة الإرادة، كما تقول في رسالتك أنك ألزمت نفسك بمنهج في التحصيل، واستطعت أن تنفذه، برغم صعوبة ظروفك.

ث. ويسر لك تعلم خمس لغات عالمية -بإقرارك أنت- لا يتيسر تحصيلها إلا للقليل من الناس أو أقل القليل.

ج. ورزقك فوق هذا كله نعمة الهداية إلى الإسلام، وهي أكبر النعم وأعظمها وأنفعها في الدنيا والآخرة.

أليست هذه يا أخي كلها نعمًا من الله تعالى عليك، وهي نعم كبيرة يتمنى كثيرون بعضها، فلا يجدونها؟!

أم أنك تعتبر هذه النعم "صفرا" لأنها لم تجلب لك المال والرفاهية؟

أما إن المال نعمة ولا شك، والفقر بلية يُستعاذ بالله من شرها، ولكن نعمة المال أقل النعم لمن تأمل، وما قيمة المال مع المرض؟ أو المال مع الجهل؟ أو المال مع الكفر أو الفسق؟ لقد قال الله في شأن قوم من المشركين: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لّا يَشْعُرُونَ} (المؤمنون:55-56).

2- عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم:

الحقيقة الثانية: أن الإنسان -بحكم قصوره البشري- لا يدري: أين يكون خيره؟ وأين يكون شره؟ فهو يحكم بالظاهر، ولا يعلم الباطن، وينظر إلى الحاضر، ولا يعلم المستقبل، وينقاد للعواطف، ولا يعمل العقل كما ينبغي؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216).

وما يدريك يا أخي أن الله تعالى يريد أن يصهرك في بوتقة الابتلاء، ويربّيك في أتون المحن، كما ربّى أنبياءه ورسله العظام، الذين ابتلوا، فصبروا وصابروا، حتى بلغوا رسالتهم، وهدى الله بهم مَن هدى، وأقام الحُجة على من أعرض وكفر.

هل كان يوسف الصديق عليه السلام يعلم أن المحن التي نزلت به طوال حياته؛ ستنتهي به إلى أن يصبح عزيز مصر، وأن تكون في يده خزائن الأرض: المالية والزراعة والتخطيط والتموين، وأن يحل الله على يديه مشكلة القحط، ويُخرِج به مصر ومن حولها من أزمة الجوع.

إن علينا أن نواجه المتاعب والآلام بصبر جميل، ولا نعتقد أن البلاء الذي ينزل بنا عقوبة من الله لنا، بل كثيرًا ما يكون هدية من الله سبحانه لنا من حيث لا نشعر. ولولا ذلك ما كان الأنبياء أشد الناس بلاءً في هذه الدنيا.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، وما يزال البلاء ينزل بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" (1).

بل إن المؤمن الحق يفلسف البلاء، فيجعل منه نعمة تستحق الشكر، بدل أن يكون مصيبة تستحق الصبر. وفي هذا جاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "ما أُصبت ببلاء؛ إلا وجدت لله عليّ فيه أربع نعم: أنه لم يكن في ديني، وأنه لم يكن أكبر منه، وأنني لم أُحرم الرضا به، وأنني أرجو ثواب الله عليه" (2).

3- {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ}:

الحقيقة الثالثة: أننا لا ينبغي أن نحمل إخفاقنا في حياتنا، وفشلنا في أمور دنيانا على كاهل القدر وحده، ونبرئ أنفسنا من كل عجز وتقصير؛ فإن نتيجة هذا اللون من التفكير أن يقعد المرء عن كل محاولة لإصلاح أمره، وعلاج مشكلته، ويقول: هذا ما قدَّر الله لي أو علي. ولا يتقدم خطوة إلى الأمام.

والمؤمن الفقيه -الذي فقه أحكام الله في شرعه، وسنن الله في خلقه- يؤمن بالقدر، ولا يحتج به، ويرجع على نفسه باللوم، بدل أن يرجع على الدهر بالسخط. وقد قال الله تعالى للمؤمنين أصحاب رسوله الكريم بعد غزوة أحد وما أصابهم فيها: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: 165).

وروى الإمام أبي داود في سننه عن عوف بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس (أي الفطنة وحسن التصرف) فإذا غلبك أمر؛ فقل: حسبي الله ونعم الوكيل" (3).

لقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل قوله: "حسبي الله" مع أنها كلمة ذكر لله، ولكنها في هذا المقام لا تدل إلا على العجز واليأس، والمؤمن لا ينبغي أن يعجز أو ييئس. وفي الحديث الصحيح: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، أحرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" (4).

ويقول الشاعر الفيلسوف محمد إقبال: "المؤمن الضعيف يحتج بقضاء الله وقدره، والمؤمن القوي يعتقد أنه قضاء الله الذي لا يُرَد، وقدره الذي لا يُغلب".

فدع العجز يا أخي وابحث في سبب ما أنت فيه، لعل فيك عيبًا معينًا هو الذي يقف في طريقك، وأنت أعرف الناس بنفسك، وأقدر على معالجة ما فيها من قصور وثغرات قد تكون مُغلَّفة بأغلفة شتى، ولكن البصير يجب أن يكتشفها ولا يغالط نفسه، فاصدق مع نفسك وجاهدها، وصحح مسيرتها، والله معك، وإذا صدق العزم، وضح السبيل. وصدق الله إذ يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69).

4- اليأس ليس من شيم المؤمنين:

الحقيقة الرابعة: إن اليأس ليس من شيم المؤمنين، فالمؤمن لا ييأس أبدًا من روح الله، ولا يقنط من رحمة ربه يومًا، وإن ضاقت الدنيا في وجهه، وغلقت الأبواب، وتقطعت الأسباب، فإن اليأس من لوازم الكفر، والقنوط من مظاهر الضلال، كما قال تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف:87)، هذا من مع غياب يوسف عنه سنين طويلة، وانقطاع أخباره، لم ينقطع خيط الأمل في قلبه، ولم ينطفئ شعاع الرجاء في رحمة ربه.

وقال تعالى على لسان الخليل إبراهيم، وقد بشرته الملائكة بغلام عليم، وامرأته عجوز عقيم، وهو شيخ بلغ من الكبر ما بلغ: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر:54 - 56)، لا يقنط الشيخ الكبير وامرأته العجوز العقيم أن يلدا غلامًا متميزًا، فإن الله إذا أراد أمرًا هيأ له الأسباب، وأزال من طريقه الموانع.

فلا تيأس يا أخي أن يكون يومك خيرًا من أمسك، وأن يكون غدك خيرًا من يومك، فإن من سنن الله تعالى: مداولة الأيام بين الناس، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140).

وقد شاع على ألسنة الناس من قديم: الدهر قُلَّب، والدهر يومان: يوم عليك، ويوم لك. دوام الحال من المحال.

وكم رأينا بأعيننا أناسًا انتقلوا من حال إلى حال: من فقر إلى غنى، ومن غنى إلى فقر، ومن ذلة إلى عز، ومن عز إلى ذل.

والله تعالى يقول: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق:7)

ويقول: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح:5 - 6)

ويقول ابن مسعود: لو دخل العسر جحرًا لتبعه اليسر حيث كان.

ولو حكيت لك عن نفسي؛ لقلت لك: إنني بعد أن خرجت من المعتقل سنة 1956م؛ رُفض تعييني في معاهد الأزهر، حيث حرَّموا علينا -معشر الإخوان المسلمين- كل الوظائف التي فيها اتصال بالجماهير، سواء في التدريس أو الخطابة والوعظ.

هذا وأنا أول دفعتي في الشهادة العالية من كلية أصول الدين، وأول دفعتي في شهادة تخصص التدريس من كليات الأزهر الثلاثة.

وبدأت أبحث عن مدرسة خاصة أُدَرِّس فيها اللغة العربية، وأنا خريج أصول الدين، فيفضلون علي خريجي كلية اللغة العربية ودار العلوم.. وسرعان ما انجلت تلك الغيوم، وصفت لنا السماء، وتوالت علينا نعم الله تعالى ظاهرة وباطنة، مادية ومعنوية. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

فاحتفظ يا أخي العزيز بإيمانك، ولا تفقد أملك في الغد لحظة واحدة، وثق أن مع اليوم غدًا، وأن غدًا لناظره قريب، وردد معي قول الشاعر:

ولرب نازلة يضيق بها الفتى  **  ذرعًا وعند الله منها المخرج

ضاقت، فلما استحكمت حلقاتها  **  فرجت، وكنت أظنها لا تفرج

وقول آخر:

اشتدي أزمة تنفرجي **  قد أذن ليلك بالبلج!

فانتظر مطلع الفجر، فإن أشد سويعات الليل سوادًا وحلكة؛ هي السويعات التي تسبق بزوغ الفجر.

ثبَّت الله فؤدك وقدميك على الحق، وشرح باليقين صدرك، ويسر لك أمرك، وحل عقدك من فضله. آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

......

(1) رواه الحاكم 3/ 343 عن سعد بن أبي وقاص.

(2) راجع موضوع "الثبات في الشدائد" من كتابنا "الإيمان والحياة".

(3) رواه أبو داود في الأقضية عن عوف بن مالك (3627).

(4) مسلم (2664) عن أبي هريرة