مصطفى عاشور

منذ أكثر من نصف قرن، طرأت تغيرات على طرق التربية الأسرية عالمياً، فقد لاحظ علماء النفس إفراطاً في الرعاية من الآباء تجاه أبنائهم، فجاءت التحذيرات من التأثيرات السلبية لهذا الإفراط، الذي يُخرج أجيالاً أقل صلابة وصموداً أمام تحديات الحياة؛ أجيالاً ضعيفة الشغف، وقليلة الصبر في مواجهة غموض الحياة، أجيالاً تميل للاعتماد على طرف خارجي لدعمها باستمرار، ومنحها الطمأنينة والحماية، فمنذ العام 1969م أطلق على هذا النوع من التربية «الأبوة المروحية»، وهو مصطلح أطلقه الطبيب النفسي حاييم جي جينوت على الآباء الذين يحومون حول أولادهم باستمرار مثل طائرات الهليكوبتر التي تحوم حول أهدافها.

مع تقدم وسائل الاتصال الرقمي، وقدرة الآباء على متابعة أبنائهم باستمرار من خلال الهواتف الذكية، وإتاحة بعض المدارس لأولياء الأمور متابعة أبنائهم من خلال الكاميرات المثبتة في الفصول الدرسية لحظة بلحظة، إضافة إلى برامج المتابعة والمراقبة، أصبح الأبناء محاصرين بمتابعة أبوية لا تغفل عنهم، وتتدخل دوماً في تفاصيل حياتهم.

هذا الإفراط الأبوي في المتابعة والرعاية والتقويم، له دوافعه ومبرراته، لكن له عواقبه على مستقبل الأبناء، فهو يخرج أجيالاً ربما حصلت بعضها من التفوق التعليمي، رغم أن الدراسات الميدانية تؤكد أن النتائج من الناحية الدراسية لم تكن كما أراد الآباء، لكن شخصية الغالبية من هؤلاء الأبناء ظهرت فيها مثالب لازمتها في حياتها؛ من الاتكالية، وعدم الاعتماد على الذات، والانتظار الدائم للدعم الخارجي.

لماذا أفرط الآباء؟ 

تشير دراسات أن الإفراط في الأبوة مرتبط بتنامي القلق، فحجم المعلومات المتدفقة التي يتلقاها الآباء بصورة شبه يومية عن المآسي والجرائم والتهديدات التي يتعرض لها الصغار زرعت القلق في نفوس الآباء، وغذته باستمرار من خلال تتابع الأخبار، التي يفرد لها الإعلام مساحات كبيرة من الاهتمام، وفي هذه الحالة لا يجد الأب إلا أن يكون بالقرب من أولاده للتدخل في الوقت المناسب لحمايتهم، فوفق تقرير المخدرات العالمي للعام 2022م، يتعاطى نحو 284 ميلون شخص المخدرات حول العالم، ويشكل الشباب قاعدة هؤلاء، مثل هذه الإحصاءات تدفع الآباء للخوف والقلق.

والحقيقة أن الصحة النفسية والعقلية للأبناء آخذة في التراجع بالعقود الأخيرة، مع تنامي الرقمية، وتعرض الأبناء لكثافة المؤثرات الخارجية، ففي تقرير نشره مركز «بيو»(1) للأبحاث في الولايات المتحدة عام 2023م، فإن 40% من الآباء الأمريكيين يشعرون بالقلق بخصوص الصحة العقلية لأبنائهم، وهذا ما أقنعهم بأن أبوتهم أصعب من الأجيال التي سبقتهم، ورأى هؤلاء أنهم يطبقون أساليب في التربية لم تطبق عليهم في طفولتهم، وهذا ما أغراهم بالتمسك بأسلوب الحماية المفرطة تجاه أبنائهم، وأشار التقرير إلى أن 45% من الآباء يميلون إلى الإفراط في هذه الحماية.

وهناك جانب اقتصادي، إذ يشعر الآباء بأن الفرص محدودة للغاية في المستقبل، وهذا يتطلب منهم أن يُعدوا أبناءهم إعداداً خاصاً يدمجهم في سوق العمل، فتجد الأب يلزم الابن بما يفوق قدراته الاستيعابية، ويجور على حقوق الابن في اللعب والتمتع بطفولته من أجل تأهيله لسنوات قادمة، وسعى باحثون لإعطاء تفسير اقتصادي لهذا الإفراط، ففي كتاب «كيف يفسر الاقتصاد الطريقة التي نربي بها أطفالنا»(2)، تأكيد أنه كلما اتسعت الفجوة الاقتصادية في المجتمع أصبح الآباء أكثر حدة، فعدم المساواة الاقتصادية لها انعكاساتها على الأبوة المفرطة، ويدرك الآباء القريبون من اقتصاد السوق أن الفائز سوف يستمر في الاستماع بالحياة المريحة، وسيمكنه الفوز من الولوج إلى تلك النخب المغلقة المحتكرة لوسائل القوة الاقتصادية.

هذه الشروط الصارمة تفرض على الآباء الطموحين أن يعدوا أبناءهم لاقتناص تلك الفرص، لذلك يلجؤون إلى التشدد والصرامة وشدة المتابعة، والإصرار على مستوى تعليمي معين، وإكساب أبنائهم مهارات بعينها، وربما كان الابن غير قادر عليها، أو غير راغب فيها، ورغم ذلك يصر الأب على إخراج ابنه بصورة تلائم تطور السوق، ومن ثم لا يترك لابنه مساحة للاختيار بين البدائل، أو إعداد نفسه للطموحات التي يرنو إليها، فنجد الأب يلهث، ويرغم ابنه على اللهاث وراء تلك الفرص، وربما كان للأبناء رأي آخر في مستقبلهم.

وهناك بُعد نفسي كامن، فقد يرى بعض الآباء أن الأبناء هم ثمرة إنجازهم، لذا يسرفون في حمايتهم من الفشل، وإجبارهم على النجاح بشكل معين يفوق قدراتهم، ويشبع حلم الآباء.

حياة بلا تحديات 

أكدت كثير من الدراسات أن الآباء الذين يفرطون في رعاية أولادهم وحمايتهم ينعكس سلباً على هؤلاء الأبناء، ففي دراسة غربية استمرت 8 سنوات، خلصت إلى أن الأبوة المفرطة أنتجت ضعف التنظيم الذاتي لهؤلاء الأبناء، فالأبناء الذين خضعوا لرعاية زائدة من أبويهم كان أغلبهم أقل في تنظيم عواطفهم وسلوكهم ومواجهة المشكلات من غيرهم، كما أنهم كانوا أقل تفاعلاً مع محيطهم الدراسي، وأقل قدرة على مواجهة الصعاب.

أما السبب الكامن وراء هذا الضعف الظاهر، فهو أن هؤلاء الأبناء كانوا ينتظرون دعماً خارجياً من أبويهم سواء من خلال التحفيز الزائد، أو الحماية الشاملة، أو حتى تحمل الأعباء عنهم، وهذ ما أغراهم بالانتظار وعدم المبادرة والنظر للفشل كعبء سوف يتحمله الآخرون عنهم.

لكنَّ هناك فارقاً بين الآباء المزعجين والآباء الداعمين لأبنائهم، فالداعمون يراقبون من بعيد، ويتركون شخصية أبنائهم تنمو بشكل طبيعي، ولا يتدخلون إلا في وقت الخطر الحقيقي، ويسمحون لأبنائهم بأن يتلمسوا خطواتهم لاكتشاف محيطهم بأنفسهم، فيمنحونهم القدر المناسب من النصائح مع القادر الكافي من الحرية في إطار متوازن من الرعاية والتحفيز، فلا تهمل احتياجاتهم النفسية وإمكاناتهم ومواهبهم، ولا تتوقف الرعاية الناضحة.

الأبوة المفرطة من أسباب الفشل والتراجع الدراسي، فقد ربطت كثير من الدراسات بين الإفراط في الأبوة وأعراض القلق والاكتئاب، وبالتالي الصحة العقلية، فالابن يتعلم من فشله الصغير، كما يتعلم من نجاحاته، كما أن وقوعه في تجارب صغيرة من الفشل تعزز قوته النفسية، ومناعته ضد الاكتئاب والتوتر، وتنثر في داخله بذور الإيجابية، وتغريه بالتحرك الناجز للخروج من ذلك الفشل والبحث عن مسار أفضل للنجاح وتحقيق الذات.

وقد تحدث علماء النفس عن نظرية «تقرير المصير»(3) أو اختصاراً «SDT»، وأشاروا إلى أن هناك 3 احتياجات فطرية في الإنسان لا بد أن تُلبى حتى تتعزز صحته النفسية، وهي: الاستقلال الذاتي؛ أي أن يشعر الشخص بقدرته على اتخاذ قراراته الخاصة، وثانية: الكفاءة والشعور بالثقة في الذات والإنجازات، أما الثالثة فهي الارتباط؛ بحيث يكون جزءاً من علاقات حقيقة، وأن يغرس فيه الشعور بالانتماء مع الآخرين.

والإنسان يحتاج إلى الطعام والماء لينمو، ووجود عنصر واحد غير كاف لتحقيق النمو، فرعاية الآباء يجب أن تترافق وتمتزج مع السماح للأبناء بتحقيق قدرتهم الذاتية في الاستقلال، ولا شك أن هذا المسار الأفضل في التنشئة، فتحطيم الآباء لفكرة الاستقلال الذاتي لأبنائهم ليس في صالحهم، لأنه يقلل احترم الابن لذاته، ويخلق مشاعر متناقضة، فقد يشعر الابن بأنه أضعف من المواجهة، وقد تنمو النرجسية، والاستحقاق المتوهم بالفوز، وربما الاتكالية الشديدة، وكلها مشكلات وسلوكيات تضر بالأبناء، وتبث فيهم ظنوناً بأنهم ما زالوا في المنزل ويحتاجون إلى دعم الأبوين، وكما تقول النصيحة المُرة: «العالم ليس كأمك، تغضب وتصرخ في وجهها في النهار وفي آخر اليوم تُناديك للعشاء، العالم سيتركك تموت جوعاً».

___________________________________

(1) https://www.pewresearch.org/social-trends/2023/01/24/parenting-in-america-today/.

(2) Love, Money, and Parenting: How Economics Explains the Way We Raise Our Kids.

(3) Self-Determination Theory.

المصدر: المجتمع